المعروف له عيوب أحياناً
محمد عبدالعزيز
فى يوم خميس كهذا اعتقدت أنه لا ينبغى لهذا القطار أن يكون مزدحماً، بل زاد سقف طموحى وظننت أنى سأتمرمغ بين مقاعده المهترئة التى تشكو زمناً من حالها البيولوجى المتعفن، فضلاً عن هرك المسافرين الذى ينُمّ عن جهدِ جهيد أثناء يومِ طويل من العمل الجحافلىّ العظيم، لكنى سرعان ما تداركت الصدمة، صدمة اكتظاظ قطار السادسة بأصناف الطلبة وعمّال التراحيل وأشباه الرجال من الذين لا يتحرجون لا من باب الخجل ولا من باب شواربهم العظيمة التى ترسم لوحة مخيفة على وجوههم، فلم تنهزهم هذه الشوارب للقيام لسيدات القطار وتركهنّ يقاسين مرارة احتكاك القطار مع القضبان وانعكاس هذا الاحتكاك الخطير على اهتزاز مقاعد القطار، فضلاً عن أرضيته التى تتزلزل استجابة لأوامر عجلات سعادته وقضبان سعادتها، فجلست آسفاً حزيناً بين عربتين، وهنا أدركت أنى قد ذهبتُ إلى حيث ينفر الناس، فكرتُ فى العودة لأزاحم الناس فى الفاصل الذى يمر فيه الباعة، فكان تفكيرى متأخراً بطيئاً فقد سبقنى إليه دهماء الناس وشراذمهم، فى هذه اللحظة آثرت فكرة البقاء فى ما بين العَربات خشية التلاحم المباشر مع هؤلاء الغوغاء الذين لا يتحرجون هم أيضاً عن ملاحمة النساء، دارت بى الأرض حول أفلاكها حين استأذنتـنى إحدى الفتيات الجامعيات فى أن تنجو بنفسها وترافقنى فى الجلوس بين العَربتين هرباً من سفه العابثين وضحكات التوافه فى زمننا السعيد، وبعد دوران أفلاك السماء عُدتُ إلى الأرض وما زالت تبدو علىَّ علامات الدهشة والحزن على حال القطار والفرحة أيضاً برفقة هذه الفتاة الجميلة، أظهرتُ تعففاً كبيراً لها وظهرت علىَّ علامات تقوى لم أكن أعرف أنها بداخلى أساساً، فى حين كانت تغمرنى فرحةً كبيرة أخفيتها عن الفتاة المسكينة التى أبدت حيرتها وخوفها من العودة إلى هذا المستنقع العفن، وما هى إلا لحظات حتى نادتها إحدى رفيقاتها بصوت خشن غليظ: «تعالى يا هدى فيه مكان فاضى، الأستاذ قام علشانا» لم أنتبه لمضمون الصوت الغليظ ولكن راعنى انسحاب «هدى» -عرفت اسمها- وذهابها إلى ذلك المقعد السعيد المحظوظ، وهنا ظللت ألعن هذا الرجل «الشهم النبيل» الذى كان سبباً فى ضياع فرصة «هدى» وأدركت أن المعروف له عيوبٌ أحياناً.