السياسة، حين تتسم بالعجز عن تحقيق الصالح العام ويرتفع بها منسوب العنف والصراع أو يهيمن عليها طرف غير ديمقراطى وتغيب عنها النزاهة والشفافية، تذهب بمصداقية الكثير من المفاهيم المهمة التى توظَّف فى غير مواضعها أو تشوَّه فى خطاب وممارسات ممارسى السياسة.
وحين أتابع السياسة فى مصر اليوم، أجد ثلاثة مفاهيم مهمة يجرى على قدم وساق نزع مصداقيتها وتشويهها.
المفهوم الأول هو بناء المؤسسات، الذى يشير إلى العملية الرئيسية والمعقدة فى مراحل التحول الديمقراطى المتمثلة فى إنشاء نظام سياسى جديد بسلطات تشريعية وتنفيذية منتخبة وسلطة قضائية مستقلة وأجهزة دولة وخدمة عامة محايدة ونزيهة وضامنة لحقوق الإنسان وتكافؤ الفرص لكافة المواطنات والمواطنين.
مفهوم بناء المؤسسات فى السياسة المصرية يختزله الإخوان وبعض حلفائهم فى صندوق انتخابات ينبغى أن يأتى وعلى عجل بالسلطتين التشريعية والتنفيذية.
صندوق انتخابات وفقط، دونما نظر إلى طبيعة القواعد الدستورية والقانونية والإجرائية التى يوجد فى سياقها الصندوق هذا.
صندوق وفقط، ودونما اعتداد بضرورة الحفاظ على القضاء المستقل كضامن لبناء سليم للمؤسسات المنتخبة وبحتمية إصلاح وإعادة هيكلة المؤسسات غير المنتخبة لضمان حياديتها ونزاهتها ومقاومتها للفساد وللعصف بحقوق الناس.
إلا أن مفهوم بناء المؤسسات يتعرض أيضاً لاختزال من نوع آخر مصدره بعض قوى وأحزاب اليمين واليسار الوطنى، وتلك لا تمانع فى تأخير إنشاء السلطتين التشريعية والتنفيذية المنتخبة إلى أجل بعيد، ولا تهتم كثيراً بإصلاح المؤسسات غير المنتخبة وإعادة هيكلتها وتعول فى التحليل الأخير على مؤسسة غير منتخبة لإدارة السياسة والشأن العام، الجيش.
التعامل مع عملية بناء المؤسسات الضرورية فى مراحل التحول الديمقراطى باختزال جوهره والتأجيل المستمر والتعويل على الجيش كملاذ ومنقذ أخير، يضرب فرص الديمقراطية فى مقتل ويتناقض مع كافة مبادئها وأدواتها التى تستند إلى إدارة المدنيين للسياسة وإخضاع المؤسسات العسكرية والأمنية (النظامية) لرقابة المدنيين (المنتخبين).
مثل هذا الاختزال لمفهوم بناء المؤسسات من قبل بعض قوى اليمين واليسار بالدعوة إلى التأجيل المستمر لصندوق الانتخابات، هو ما يبرر تارة بالخوف مما يسمى غياب التوازن عن صندوق الانتخابات، علماً بأن الصندوق هذا لا يتوازن أبداً وتارة أخرى برفض القواعد غير العادلة للممارسة السياسية، وهنا سبب مشروع لتأجيل الصندوق لكن شريطة السعى لتغيير القواعد غير العادلة، ينزع المصداقية عن إدارة المدنيين للسياسة وللشأن العام ويروج مجتمعياً لحلول غير ديمقراطية توقف بناء المؤسسات وإنشاء نظام سياسى جديد وجوهرها ووجهتها فى مصر هى إعادة الجيش إلى السياسة.