لم أكن قد بلغت الثامنة عشرة عندما اصطحبنى صديق بريطانى هو الموقر «هوارد ليفيت»، وهو رجل صالح قارب وقتها الخمسين من عمره وتعلمت منه الكثير، اصطحبنى للعلمين لزيارة مقابر الجنود البريطانيين ضحايا الحرب العالمية الثانية.. توقفنا أمام شواهد القبور وبدأت عيناه تدمعان، ثم انفجر فى بكاء شديد، فسألته لم يبكى جنوداً لقوا حتفهم منذ سنوات طويلة.. كان يمكننى أن أفهم لو صلى من أجلهم، ولكن البكاء الشديد أدهشنى.. فكانت إجابته: «أبكى لأنهم أطفال ألقى بهم فى أتون الحرب»..
قرأت أعمارهم على شواهد القبور، فكان بعضهم فى سنى والبعض أكبر قليلاً، وبالطبع فى مثل عمرى وقتها يعتبر الشاب نفسه كبيراً فتعجبت من مقولته إنهم أطفال، ولكنى التزمت الصمت احتراماً لمشاعره ودموعه التى ظلت تتساقط طوال طريق العودة للإسكندرية ونحن نستمع إلى أغنية يتحدث المغنى عن جندى لن يرى حبيبته مرة أخرى لأنه باقٍ يحرس الحدود..
غابت القصة عنى لسنوات طوال، حتى قرأت يوم الجمعة عن استشهاد 12 من جنودنا البواسل فى الهجوم الإرهابى على نقطة تفتيش زغدان فى سيناء وكان ذلك بعد يومين فقط من كلام مملوء بالشجن والقوة فى نفس الوقت من السيدة سامية عطية أم الشهيد البطل إسلام عبدالمنعم مهدى فى الندوة التثقيفية للقوات المسلحة.. كلام السيدة العظيمة كان شحناً معنوياً ألهب مشاعر الحضور، بين حزن عميق وإعجاب شديد بمشاعر صادقة لسيدة ود الكل أن يقبل يديها، كما قبل الرئيس السيسى رأسها..
على الهواء فى اليوم التالى، بدأت أقرأ أسماء وأعمار شهداء نقطة زغدان.. كانوا فى سن 21 و22، فتملكتنى فكرة أنهم أطفال.. لم أتمالك نفسى وأجهشت فى البكاء رغماً عنى لأنهم بالفعل أطفال حتى ولو كانوا رجالاً بمقاييس الرجولة فى زمن عزت فيه شواهد الرجولة، وهى بلا شك لا صلة لها بالذكورة.. لم يستشهد جنودنا كجنود بريطانيا الذين قتلوا فى أرض غريبة دفاعاً عن أطماع إمبراطوريتهم أمام أطماع إمبراطورية النازى، بل كانوا يحرسون طريقاً داخل وطنهم حتى لا يمر منها أعداء الحياة ليهددوا باقى بقاع سيناء الطاهرة ولا ينفذوا إلى وادى النيل المكتظ بسكانه وأنا واحد منهم.. أطفال بمقاييس العمر، فدونى بأرواحهم رغم أن العمر كان طويلاً أمامهم يهنأون فيه بالحياة كأقرانهم، ولكن الله اختارهم شهداء بجواره، فتركوا المستقبل ولم يكن لديهم الكثير فى شريط حياة ماضى ليسجلوه..
بكيت كما بكى صديقى البريطانى، رغم شعورى بالفخر أنهم أبطال من بنى وطنى مثلهم مثل من كانوا فى أعمارهم، وقضوا نحبهم دفاعاً عن الأرض والعرض فى نصر أكتوبر 73.. ولكن المؤلم أيضاً أن شهداء زاغدان استشهدوا على يد مصريين أو حتى عرب.. فكرت فى آبائهم وأمهاتهم وهم يعيشون لحظات قاسية وهم يتلقون النبأ، وأن عجلة الحياة التى تقضى بأن يدفن الابن أباه وليس العكس قضت بأن يدفنوا أبناءهم.. لحظة قاسية لا يعرفها إلا من عاشها..
عزاؤنا ردة فعل المواطنين وتصاعد حالة التلاحم بين المصريين مرة أخرى عدا من شذوا عن القاعدة، وقد اعتدنا منهم الشذوذ فى آرائهم وأفعالهم وأقوالهم.. عزاؤنا ردة الفعل على أرض سيناء التى بدأت فى نفس لحظات كتابة هذا المقال، ليس ثأراً ولكنه تصحيح لوضع وجب تغييره اليوم وليس غداً.. عزائى أن نستفيق من الحالة التى نعيشها وندرك أننا ما زلنا نخوض معركة بقاء ضد قوى لا تبغى لنا إلا الفناء، ولكن هذا الشعب بإرادته وبإذن الله باق والإرهاب فان.. اللهم ارحم شهداءنا وأسكنهم فسيح جناتك وأنزل على ذويهم السكينة..