يوم الاثنين المقبل قد يشكل لحظة فارقة فى تاريخ لبنان، ففى هذا اليوم، وفى حال عدم حدوث أى موقف طارئ، سوف يعقد البرلمان اللبنانى جلسة لانتخاب الرئيس، والمرجح أن يكون التفاهم الجديد بين سعد الحريرى، زعيم تيار المستقبل، والعماد ميشيل عون، زعيم تكتل الإصلاح والتغيير والحليف المسيحى القوى مع حزب الله، بمثابة البوابة التى ستفتح أبواب القصر الرئاسى فى بعبدا أمام ميشيل عون بعد عامين ونصف العام من الفراغ الرئاسى. وفى حال صارت الأمور كما يفترض ستكون الخطوة التالية هى تشكيل حكومة برئاسة سعد الحريرى، ويشارك فيها أهم حلفائه المسيحيين، وأبرزهم سمير جعجع رئيس القوات اللبنانية، وهو الذى كان مرشحاً لقوى 14 مارس/آذار قبل عامين ونصف العام للرئاسة، ولكن الانقسام المسيحى حول شخصه والموقف الصارم لحزب الله المؤيد لعون رئيساً حال دون ذلك.
هذه اللحظة الفارقة على النحو السابق ذكره، التى تبدو هى الأرجح، إلا أنها غير مضمونة تماماً، وقد يمر اليوم الموعود دون انتخاب الرئيس الموعود، فتيار المستقبل الذى يشكل القوام الرئيسى لقوى 14 مارس/آذار ليس على قلب رجل واحد، والمعترضون يرون فى «عون» اختياراً يتناقض تماماً مع ثوابتهم السياسية التى تختلف جملة وتفصيلاً عما يطرحه «عون» وتياره السياسى بشأن حاضر ومستقبل لبنان، وأن شخصيته السياسية التى تميل إلى المبالغة لا تصلح لمنصب الرئيس فى بلد يقوم على تعايش التعدد، ناهيك عن تحالفه مع حزب الله الذى يفسح المجال أمام وصاية إيرانية على الشأن اللبنانى بمؤسساته وحكومته معاً، وقد يورط لبنان فى الأزمة السورية خضوعاً لحزب الله وهو ما سيشكل ضربة قوية لاستقرار لبنان وهويته.
سعد الحريرى من جانبه، وفى إطار تفسير الأسباب التى دفعته لترشيح العماد عون، أو ما وصفه بالمخاطرة الكبرى، ذكّر حلفاءه بالترشيحات السابقة التى قدمت فى العامين الماضيين، ولكنها فشلت جميعاً لاعتبارات تتعلق بالانقسامات بين القوى المسيحية ذاتها وتمسك حزب الله بعون رئيساً، وأنه لم يكن هناك مفر من التفكير خارج الصندوق وطرح عون كخيار أخير لمنع انهيار لبنان، لا سيما أن دعوات القوى المتطرفة دينياً وسياسياً بدأت تنادى بقوة بضرورة تغيير النظام السياسى اللبنانى المستند إلى اتفاقات الطائف، التى تمثل الحد الأدنى الذى يحمى التعايش السلمى بين اللبنانيين جميعاً. وفى محاولة من الحريرى لطمأنة حلفائه أكد للجميع أن ترشيحه لعون لم يكن بمثابة شيك على بياض، بل جاء مرهوناً بجملة من التفاهمات التى تحول دون توريط لبنان فى قضايا شائكة قد تفجر الوضع كله، وأهم هذه التفاهمات أو القواسم المشتركة تتعلق بحفظ الدولة والنظام وأن أى تعديل على النظام اللبنانى لا بد أن يرتبط بإجماع وطنى من كل اللبنانيين، وأن لبنان وطن لجميع أبنائه، وهو عربى الهوية والانتماء، ورفض التقسيم والتجزئة والتوطين، وإطلاق عمل المؤسسات والاقتصاد والخدمات الأساسية، وكذلك الحياد الكامل تجاه الأزمة السورية والانتظار، حتى يتوافق السوريون فيما بينهم، ثم تسيير العلاقات السورية اللبنانية بطريقة طبيعية.
والناظر لتلك التفاهمات يجد أنها تشكل أيضاً قوام بيان الحكومة المنتظرة فى حال قبلتها القوى السياسية الأخرى، وهو أمر مشكوك فيه نظراً لأن التورط العسكرى المباشر لحزب الله فى الأزمة السورية يجعله رافضاً من حيث المبدأ فكرة الحياد اللبنانى فى الأزمة السورية. ومن هنا تبدو تفاهمات الحريرى وعون غير مضمونة التطبيق، وأن هناك توازن قوى داخلياً يحول دون الالتزام بها حرفياً حال انتخاب عون رئيساً. وثمة مشكلة أكبر من الشك بالتزام عون المحتمل بما يصون هوية لبنان وعروبته وحياده وتتعلق بموقف نبيه برى، زعيم حركة أمل ورئيس البرلمان، فبالرغم من تحالفه التاريخى الوثيق مع حزب الله فلم يوافق قط على ترشيح عون رئيساً، وهو من المؤمنين بأن استقرار لبنان ومؤسساته وكذلك انتخاب الرئيس الموعود مرهون أساساً بسلة من التفاهمات الإقليمية والداخلية، أبرزها توافق كل من إيران والسعودية، وهو أمر لن يحصل تلقائياً، بل من خلال تفاهم أكثر شمولاً يتعلق بقضايا عربية أخرى، أبرزها الأزمة السورية، أما داخلياً فتتضمن سلة برى أن يكون انتخاب الرئيس اللبنانى مقروناً بإعداد قانون انتخابى جديد يراعى ثغرات القانون المعمول به الآن، والاتفاق على تشكيل الحكومة وبرنامجها، وأن يتم التطبيق فور انتخاب الرئيس.
ونظراً لأن التحرك الذى قام به سعد الحريرى تجاه العماد عون كان دون تنسيق مسبق مع زعيم حركة أمل نبيه برى، فقد وجد فيها الأخير نوعاً من تجاوز دوره ومكانته، يُضاف إلى ذلك أن القوى المسيحية ما زالت متباعدة فيما بينها، فما زال سليمان فرنجية متمسكاً بترشحه للرئاسة، كما أن زعيم اللقاء الديمقراطى وليد جنبلاط يرى أن النائب هنرى حلو مرشح ثالث، وهكذا يتداخل انقسام القوى المسيحية بشأن عون مع رفض عدد من النواب أعضاء تيار المستقبل لهذا الترشيح ثانياً، ومع تحفظات حركة أمل بزعامة نبيه برى ثالثاً، وتحفظات بعض المنتمين لتيار اللقاء الديمقراطى الممثل للدروز، لتجعل احتمال انتخاب عون فى جلسة البرلمان يوم الاثنين المقبل مسألة غير مرجحة تماماً، اللهم إلا إذا حدثت تعديلات جذرية فى مواقف هذه الأطراف الرافضة، وهو أمر يتوقع حدوثه إذا حدث نوع من التفاهم العام بشأن مشاركة هذه القوى وتحددت حصص لكل منها فى الحكومة الواجب تشكيلها بعد انتخاب الرئيس، والمرجح أن يكون رئيسها سعد الحريرى نفسه. وفى هذه الحالة سيكون لبنان قد مر من عنق الزجاجة، وأصبح لديه لأول مرة رئيساً صنع فى لبنان ويعكس التفاهمات الداخلية وموازين القوى الذاتية بعيداً عن أى تدخل خارجى عربى أو إقليمى أو دولى. وهذا هو الشق الأكثر إيجابية حال نجاح هذا المشهد. ولكن هذا النجاح حال حدوثه لن يكون نهاية المطاف، بل فاتحة طريق لمستقبل ملىء بالصعاب والمشكلات، التى قد يحد منها إصرار اللبنانيين على التمسك بصيغة التعايش التى تجمع بينهم وعدم السماح لأى طرف بأن يورط البلاد فى أتون الأزمة السورية الملتهبة. وفى كل الأحوال، لبنان كله بقده وقديده وليس فقط سعد الحريرى مُقدم على مخاطرة كبرى، إما تصنع أملاً وتعيد اليقين للبنانيين، وإما تفتح الباب بقوة أمام تغيير النظام اللبنانى بالعنف بعد أن فشلت السياسة.