إن كانت محافظتا الأقصر وأسوان تضجان بالرفض للحكم الإخوانى الذى لم يوقف الإهمال المنظم للصعيد من قبل السلطة المركزية ولم يغير الظروف المعيشية المتدهورة للمصريات وللمصريين هناك ولم يتعامل بجدية مع الأنين الشعبى من سوء تخصيص الموارد المحدودة وغياب الجهود التنموية، إلا أن هذا لا يعنى أن المحافظتين تنظران بإيجابية لأحزاب وقوى المعارضة الليبرالية واليسارية أو أن أغلبية كاسحة من سكانهما ستصوت لصالح الأحزاب والقوى هذه فى الانتخابات المقبلة.
فكما رتب إهمال الحكومات المتعاقبة للصعيد فقدان الثقة بالسلطة المركزية وبمن يسيطر عليها، تجاهلت الأحزاب والقوى السياسية تقليديا الصعيد ولم تظهر به إلا فى مواسم الانتخابات وبهدف وحيد هو الحصول على أصوات العصبيات والعائلات الكبيرة.
وبعد ثورة يناير 2011 نشطت بعض الأحزاب الليبرالية واليسارية فى الصعيد وسعت إلى منافسة أحزاب اليمين الدينى، إلا أن نشاطها اقتصر مجددا على الدعاية الانتخابية وتأسيس المقار الحزبية ولم يتجه إلى برامج حقيقية للتوعية ولتنمية المعارف والثقافة السياسية وللتعبير عن مطالب الصعيد بمضامين جديدة تتسق مع أهداف الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والحرية والتنمية وعلى نحو يصنع لهذه الأحزاب قواعد شعبية واسعة. يقولون فى الأقصر وأسوان: إن الأحزاب الليبرالية واليسارية لا تختلف كثيراً عن اليمين الدينى؛ فالتعامل بنفعية تامة مع الصعيد والغياب طالما غابت الانتخابات هما السمتان الرئيسيتان والمشتركتان لكلتيهما.
السبب الثانى وراء شيوع نظرة سلبية لأحزاب وقوى المعارضة فى الصعيد يرتبط بالشك التقليدى بين المصريات والمصريين هناك فى من كثر حديثه وقل فعله.
أصداء الشك هذا اختزنتها ذاكرتى من زيارات سنوية كانت لى كطفل وشاب مع والدى رحمه الله ووالدتى أطال الله فى عمرها إلى بلدتنا بمحافظة المنيا (المحرص) ومن أحاديث الأهل هناك. ودوما ما أعادت زياراتى لمحافظات الصعيد خلال العامين الماضيين إحياء ذاكرة الشك فى كثيرى الكلام وقليلى الفعل، وهكذا كان أثر الأيام الماضية فى الأقصر وأسوان وحصيلة الأحاديث التى جمعتنى مع كثيرين هناك.
للناس مطالب واضحة وضوح شمس الصعيد الساطعة، ولغة مباشرة حادة كجغرافية المكان وتقلبات طبيعتها وألوانها، وحد أدنى من تنظيم الحقوق الطبيعية وضمان الأمن لا يتنازلون عنه، وإباء يمكنهم من التمييز بين من يتعامل معهم بنفعية وموسمية ومن يرغب بالفعل فى تحسين ظروف حياتهم القاسية.
لذلك، وعلى الرغم من الرفض الواضح للحكم الإخوانى، لن تنجح أحزاب وقوى المعارضة فى بناء قواعد شعبية حقيقية فى الصعيد إلا إن قدمت بدائل فعلية ببرامج سياسية جادة، وبرامج تنموية تصنع تجارب حياتية وتغير الظروف المعيشية، ووجود مستمر على الأرض وبين الناس يتجاوز التوظيف غير النزيه للدين الذى يضج الصعيد برفضه وكذلك الموسمية والنفعية فى التعاطى مع مطالب وأزمات الصعيد.