من النادر أن تقدم «المخابرات العامة» تعازيها فى الجرائد الرسمية، إلا إذا كان فى تقديرها أنها تنعى «بطلاً».. بطلاً لم تصنعه وسامته وخفة ظله وتهافت نجمات السينما على الوقوع فى غرامه على الشاشة.. بل بطلاً باختياراته الفنية.. ببصمته التى خلدت مؤسسة وطنية مهمة وجعلت اسم «رأفت الهجان» هو شعار الفخر برجال المخابرات الحربية فى كل الدول العربية.
«يوميات رأفت» تشبه إلى حد كبير شريط حياة النجم الذى أسعدنا وأدهشنا حتى آخر لحظات حياته.. إنه «العاشق» لمصر، الذى نافس شخصه وتحدى قدراته كممثل ليقدم لنا فى فيلم «إعدام ميت» دور رجل المخابرات الوطنى فى مواجهة «الجاسوس الخائن»، وبذكاء يخطف قلبك ويستحوذ على عقلك وأنت موزع ما بين استظرافك لفهلوة «الجاسوس» وخفة ظله، وبين رجل وطنى يبحث عن معلومة مؤكدة عن امتلاك إسرائيل للسلاح النووى، لا يجوز أن تختصر «الساحر» فى دور أو شخصية، ولا يصح أن يكون مجرد شهاب أضاء شاشة السينما ثم انطفأ حزيناً.. إنه «حالة استثنائية» فى ذاكرة الشاشة العربية.. حالة جعلت الوطنية مشاعر رومانسية، وخلقت للحب «عقلاً» يستوعب «حتى آخر العمر».. وضميراً يترفع على غرائز «العذراء والشعر الأبيض».. حالة وجدان يرفض «عار» المادة حتى لا يموت الطبيب بداخله.
هذه بعض اختيارات صانع البهجة «الشيخ حسنى» صاحب البصيرة الثاقبة واللسان اللاذع، العنيد الذى يرفض أن يصدق أنه «أعمى» فى إحدى روائع المخرج «داوود عبدالسيد» فيلم «الكيت كات».. وحده «الشيخ حسنى» كان يرى «الحارة عارية» بنزقها ومجونها بشبقها وغيبوبتها.. بشهوتها للمادة والجنس والمخدرات وحلم الهجرة لوطن آخر.. وكلما ازدادت قبحاً غنى: (ياللا بينا نسيب اليوم فى حاله/ وكل واحد مننا يركب حصان خياله / درجن درجن درجن).
كان «محمود عبدالعزيز» ساخراً بطبيعته، ولهذا منح أفلام «الفانتازيا» نفحة من روحه التواقة لإسعاد الناس.. «أيقونة البهجة» يقول لزوجته النجمة الراحلة «معالى زايد» فى (الشقة من حق الزوجة): (يعنى لو طلقتك تسيبينى أنام؟.. أيوه. ده آخر كلام؟.. أيوه.. انتى طالق يا كريمة).
ويغنى لكيمياء النجم «يحيى الفخرانى» فى «الكيف»: (الكيميا شبعتنا ودقنا الباكلا).. ويلخص غيبوبة «الغناء الهابط» بجملة: (إدينى فى الهايف وأنا أحبك يا فننس).
«القرد بيتنطط ولا بطل تنطيط»؟.. لم تكن جملة عابرة فى مشهد سينمائى.. إنها ملخص عملية الاتجار بالبشر ومقايضة الإنسان بالمال فى «جرى الوحوش»!
الحديث يطول عن «محمود عبدالعزيز»، لأنه يحمل نفس ملامحنا ونقاط ضعفنا، يحلم لنا ويحقق بطولاتنا المستحيلة، يطارد لحظة سعادة شاردة لنبتسم حتى فى استقبال موت يفلسفه بطريقه خاصة جداً: فى واحد من أروع المشاهد فى الدراما المصرية ما قدمه النجم «محمود عبدالعزيز» كأفضل ما يكون ووصفه وكأنه جربه وعايشه بالفعل.. كان يتحدث عن الموت.. فى مسلسل «جبل الحلال» -فى مشهد تمثيلى- مع الفنان «مظهر أبوالنجا»، فقال «عبدالعزيز»: (متخافيش على أبوهيبة يا حامد.. اللى شاف الموت ميخافش منه.. أصلى شفته وعرفته أقسم بالله شفته وهو جاى عشان ياخد عمرى.. حسيت إنى طلعت لفوق لفوق لفوق وشفت الأرض كأنها حبة رمل ماتساويش.. وتحس إنك خفيف خفيف والموت حنين وعمال يطمنك.. وشفت قدامى شريط بيدور زى البكرة مابيقفش.. الشريط كله صور وأنا هنا وأنا فى الجيش وأنا فى البلد وأنا بقع والنار زى العود فى جسمى.. اللى يحس الموت ويصاحبه بتتغير حياته.. وبعدين بنخاف من الموت ليه ما كلنا متنا كذا مرة)!!
وكانت وصيته لأولاده رش زجاجة مياه من البحر على قبره بالإسكندرية.. ومثل لؤلؤة نادرة خرج «محمود عبدالعزيز» من بين أمواج البحر، ثم عاد وغاص من جديد.. أبحر إلى عالم لا نعرف كيف نموته أو كيف نعيشه.. وهناك سيولد من جديد لأن الأبطال لا يموتون!