بات مؤكداً أن هناك عصابة تجار، ذائبة فى المجتمع المصرى كالسم فى العسل، تتربص بوزارة الزراعة لإسقاطها نهائياً.
سيناريو تدمير الفلاحة خاصة، والصناعات المرتبطة بها عامة، تؤكده القرارات التى تصدر فجأة عن مجلس الوزراء، دون مقدمات بشأنها، أو طرحها للمناقشة على طاولة حوار فنى، لدراسة جدواها، وتشريح أهداف من يحاول نثر بذرتها الشيطانية.
آخر هذه القرارات ما صدر أمس الأول برفع الجمارك عن الدواجن المستوردة المجمدة لمدة ستة أشهر، ليلحق بقرار صدر قبل أسبوعين، بنقل اختصاصات «الحجر الزراعى» على استيراد (القمح، والذرة، والفول الصويا) إلى الهيئة العامة للرقابة على الصادرات والواردات.
وبالتوازى مع خطورة القرارين، وأثرهما التدميرى اقتصادياً واجتماعياً وأمنياً، فإن مثل هذه القرارات تجعل عضواً مهماً فى «مجلس الوزراء»، وزيراً بلا وزارة، كما تجعل وزارة الزراعة كياناً سياسياً، منزوع القيمة فنياً، بصرف النظر عن احتضانها أكثر من مليون موظف، منهم نحو 11500 باحث، يعملون فى خدمة 65% من السكان «الفلاحين» لإنتاج غذاء أكثر من 90 مليون مصرى.
ولمن لا يعى دور «الحجر الزراعى» فهو الجهة القُطرية التى يجب أن تنشئها أى دولة وقّعت على الاتفاقية الدولية لوقاية النباتات الصادرة عن منظمة «فاو»، عام 1997، للاضطلاع بعدة مسئوليات أهمها: تنفيذ المواثيق الدولية التى تحفظ صحة النباتات داخل إطار الدولة.
القرار الخاص بجمارك الدواجن يحكم بتشريد نحو خمسة ملايين عامل، وإغلاق باب الرزق لأسرهم، وقرار الحجر ليس سوى مقدمة لتصفية إدارة «الحجر الزراعى» نهائياً داخل وزارة الزراعة، ليظل موظفوها بلا عمل، كمقدمة لتسريحهم وفق امتيازات قانون الخدمة المدنية الجديد، كما يطيح بحائط الصد الوطنى الذى يحول دون دخول نباتات، أو بذور محاصيل حقلية أو بستانية، أو أنسجة نباتية، إلا بعد فحصها، والتأكد من خلوها من الآفات والأمراض التى تهدد صحة النباتات.
قرار رفع جمارك الدواجن أيضاً، يحوّل أرزاق 3 ملايين عامل، وأرباح استثمارات تقدر بنحو 60 مليار جنيه، إلى خزينة حفنة من المستوردين الجبابرة، وفيه أيضاً تدمير لأهم قطاعات وزارة الزراعة.
تاريخياً، بدأ التحرش بوزارة الزراعة، وتصفية قطاعاتها وهيئاتها وشركاتها، منذ عام 2004، بعد إزاحة الدكتور يوسف والى عن المشهد بإيعاز من إسرائيل، على العكس مما يشاع بأنه كان رجل إسرائيل الذى سرطن الحياة بتطبيع العلاقات الزراعية مع الكيان الصهيونى.
حل أحمد الليثى كأول مندوب للتفليسة، حينما بدأ ولايته بتصريح يعزف على وتر عاطفى لدى الشعب المصرى «الاكتفاء الذاتى من القمح»، وعلى أنغام هذا اللحن تم تمرير شائعة المبيدات المسرطنة التى زعم اكتشافها، ليثبت بعدها عدم صحة الواقعة، وتبرئة يوسف والى ورجاله المتهمين فيها، بحكم قضائى نهائى بات.
ثم حل ضيفاً على وزارة الزراعة رجل اقتصاد، لم يكن يعرف عن الفلاحة سوى الاتجار بحاصلاتها، فأعطى ظهره للتطوير، لتتهالك محطات الميكنة الزراعية (144 محطة)، ويساهم فى تحطيم منظومة زراعة القطن، ليتمكن من بيع أراضى المحالج، التى كانت قد بيعت لإحدى شركات حلج الأقطان، وكان هو المساهم الأكبر فيها، ومعه أيضاً تم الاستيلاء على أموال صندوق دعم البحوث، وتطويعها لغير الغرض الذى أنشئ الصندوق من أجله.
ومنذ قيام ثورة 25 يناير 2011، حتى الآن (نحو ستة أعوام) تعاقب على الوزارة 8 وزراء، لم تحرز الزراعة المصرية فيها أى تقدم ملموس على صعيد «سد الفجوة الغذائية فى مصر»، على الرغم من تطور البحوث الزراعية، وتحقيق إنتاجية بحثية جيدة معملياً، وفى إطار الحقول الإرشادية، وذلك ليس بسبب فشل الوزراء أو ضعف انتمائهم الوطنى، ولكن بسبب إرغامهم دون علمهم ربما على مطاردة القطط السوداء فى الغرف المظلمة، بتدبير من تجار السلع الغذائية، وهواة تسقيع الأرض لتقويض هذه الوزارة نهائياً، ولتحقيق مكاسب فئوية خاصة.
ولكى يكون الحديث غير مرسل، أستعرض الآتى:
- شهدت الأعوام التى تلت يوسف والى تدميراً جزئياً، بلغ الآن ذروته لقطاع الميكنة الزراعية، كما لم تتقدم مشاريع صيانة التربة المصرية (تطوير الرى والصرف)، ما أخرج أكثر من خمسة ملايين فدان من دائرة «الزراعة النظيفة»، وبالتالى حرمانها من التصدير.
- تم الإجهاز على صناعة القطن، فى ظل تجفيف منابع خامتها الوحيدة «القطن طويل التيلة»، لتتحلل معها مشاريع إنتاج اللحوم الحمراء وزيوت الطعام من «كسبة» البذرة السوداء.
- شهدت الفترة من 2006 حتى مطلع 2011 تصفية قطاع الدواجن، حين تمت الاستجابة للمربين الصغار بتطعيم قطعانهم المصابة، بدلاً من تعويضهم عن إعدامها كوسيلة وحيدة للقضاء على فيروس إنفلونزا الطيور، ليتحول هذا القطاع من مرحلة التصدير إلى فجوة مقدارها نحو 10% فقط، وقد تصل إلى 90% خلال شهرين، بعد قرار رفع الجمارك عن الدواجن المجمدة المستوردة.
- شهدت الحقبة التى تلت ثورة 25 يناير تقليصاً ممنهجاً لصلاحيات وزارة الزراعة، وتهميش دورها، لتقع خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة تحت مقصلة التجار، الذين وضعوا تصورات ما بعد تفكيكها، لاستيراد الرغيف مغلفاً، والبيض والدجاج والسمك والخضار مجمداً، بدلاً من زراعة الأرض، وتربية المواشى والدواجن، وتنمية البحيرات بالثروة السمكية.
- وأخيراً، لم يكن مخطط إسقاط صلاح هلال فى رأيى سوى إعلان درجة النجاح القصوى بدق آخر مسمار فى نعش الزراعة المصرية، لتعلو معزوفات الفساد بأنامل «عصبة من التجار»، واهبى السكر والزيت والفول والأرز والقمح والدجاج الفاسد، لبطون المستهلكين المساكين.
المؤسف، صمت فريق نجوم الـ«توك شو» الحالى حيال تحرير استيراد الدواجن الميتة، ونقل أهم صلاحيات «الحجر الزراعى» إلى دوائر عصبة التجار، المسلحة بأبواق إعلامية مأجورة تخير المصريين بين الرضا بالجوع ومسلسل الدمار فى ليبيا، وسوريا، واليمن.
وليس بعيداً أن تظهر على شاشات الفضائيات، خلال الأيام القليلة المقبلة، أصوات، إما جاهلة أو خائنة، تبرر قرار رفع الجمارك عن الدواجن، بدعوى توفيرها للمصريين بسعر أقل، دون التطرق للمقارنة مثلاً بين سعر كيلو الدجاج (21 جنيهاً) وكيلو العدس (32 جنيهاً) للمستهلك.