التفاصيل مثيرة وعجيبة.. أقرب إلى أسطورة من أساطير ألف ليلة وليلة. المأساة تتجسد كاملة، وبما لا يكفيه مقال واحد لروايتها، لكن أيضاً البطولة تقف لتتحدث عن نفسها لرجال وكأنهم خُلقوا للبطولة وصناعة المستحيل!
الزمان: 1961.. المكان: الكونغو أو زائير سابقاً.. العصر: أزهى عصور التحرر الوطنى والتخلص من الاستعمار الغربى وحصول أفريقيا دولة بعد أخرى على الاستقلال. وجاء دور الكونغو، واحتلالها بلجيكى، كان اليوم يوم تسلم أصحاب البلاد الأصليين وطنهم بعد عشرات السنين من الذل والاستعباد. كان الثائر الشاب «باتريس لوميمبا» المولود قبل 36 عاماً فقط من اليوم الموعود هو زعيم الكونغو ومعه كان الثائران «تشومبى» و«موبوتو سيسيكو». كان الاحتفال شعبياً ورسمياً تحضره الجماهير الغفيرة من أبناء البلد المحتل ومعهم ملك بلجيكا ورئيس وزرائها وعدد من السياسيين جاءوا لتسليم السلطة. يأتى دور لوميمبا للحديث.. ينطلق بسلوك الثائر الذى تتجمع أمامه فجأة صور من الماضى الذى عاشه وشعبه، وفيه من الظلم ما يكفى مؤلفات ومؤلفات، فيمسك بالميكروفون ويهاجم البلجيكيين، ويوجه كلامه لملك بلجيكا محملاً إياه ما وصل إليه حال الكونغوليين من فقر ومرض وجهل، بل ويقول له بكل قوة: «أنت أصلاً لست مدعواً للاحتفال.. هو من فرط علينا وعليه هل ما زلتم تعاملوننا بمنطق المحتل»؟.. قبل أن ينتهى «لوميمبا» من خطبته انطلق ملك بلجيكا من مكانه وكل علامات الغضب على وجهه ومعه كل الوفد البلجيكى.. وأدرك الجميع أنه حتى لو تم استكمال استقلال الكونغو فإن قرار التخلص من لوميمبا قد صدر!
نصح الثوار لوميمبا بالاختفاء.. واستطاعت الاتصالات السرية إقناع رفاق لوميمبا بالتخلى عنه، بل وأوكل إليهم القبض عليه وإعدامه. كان الاتفاق بلجيكياً أمريكياً.. أمريكا التى هاجمها لوميمبا كثيراً واعتبرها رأس الاستغلال فى العالم.. لكن الثائر الكبير يعتكف فى بيتة آملاً أن يحميه شعبه، وعلى الفور يتولى تشومبى رئاسة الوزراء ويتولى موبوتو رئاسة الأركان.. وتصدر الأوامر بحصار بيت لوميمبا!
فرض جنود موبوتو حصاراً صارماً حول البيت، إلا أن سيناريو آخر جرى سراً.. زوجة لوميمبا فى البيت تظهر فى الشرفة بعض الوقت بينما كان لوميمبا غادر المنزل بعد أن ودّع أولاده الثلاثة بياتريس وجوليانا وفراسوا.. وجرى تهريبه عن طريق حيلة استغلت وجود مستشفى مصرى قريب من بيته، ولم يتبق إلا تهريب الزوجة والأطفال.. الزوجة أصرت على البقاء إلى جوار زوجها أو اللحاق به، وبقى أمر الأطفال، إلا أن أمراً من القاهرة يأتى مباشرة من الرئيس جمال عبدالناصر بحماية الأطفال وتهريبهم بأى ثمن..!
كان السفير المصرى وقتها هناك هو محمد إبراهيم كامل الذى استقال فيما بعد فى السبعينات، وهنا يظهر فى القصة مصرى اسمه عبدالعزيز إسحق.. كُلف بالمهمة كلها.. وعن طريق المستشفى المصرى، وبطريقة ما زالت غامضة حتى اليوم، خرج الأطفال الثلاثة، وفجأة يخرج عبدالعزيز إسحق جواز سفر مثبوتاً عليه الأطفال الثلاثة باعتبارهم أبناءه، وفى سيارة جيب هرب الأطفال مع إسحق إلى خارج المدينة بينما يظن الحرس أن الأطفال موجودون بالبيت ولا يخرجون للعب فى الحديقة من خوفهم من الحراس!
ألقيت كراتين ورقية على الأطفال للهروب من كمين وآخر حتى وصلوا إلى المطار، ولم تكن هناك أى رحلات وطنية بل كانت بلجيكية كلها.. كل ذلك يجرى بينما لوميمبا يهرب من مدينة إلى أخرى وبدلاً من الاختفاء والسرية يقف فى كل تجمع جماهيرى ليخطب فى الناس ويحرضهم على الثورة لاستعادة حقوقهم.. ولهذا السبب عرفوا مساره ونُصبت الأكمنة لاصطياد الصيد الثمين، وتم القبض عليه فعلياً وأُعدم رمياً بالرصاص فى مكان سرى لم يُعرف لليوم ولا يُعرف له قبر حتى اليوم!
وصل الأطفال الثلاثة إلى المطار ومروا من كل الإجراءات، ورغم أن جواز السفر الذى ظهر فجأة غير حقيقى، فإنه لم يكتشفه أحد حتى آخر ضابط الذى أمر برؤية الأطفال عن قرب.. أبلغه إسحق أنهم نائمون ولا يمكن إيقاظهم. رفض الضابط.. فى هذه اللحظة تتجسد معجزة عسكرية مصرية خالصة، فقد كان إسحق يعتقد أنه هو قائد عملية تهريب الأطفال، بينما كان قائد عسكرى مصرى موجود فى الكونغو مع قوات الأمم المتحدة هو المسئول الحقيقى لتنفيذها ولو بالقوة.. إنه العقيد وقتها سعد الدين الشاذلى الذى، ورغم الاضطرابات، وصل من الناحية الأخرى من البلاد وبسرعة مذهلة ومعه كتيبة من الصاعقة المصرية وكان ثلثهم من السوريين، حيث كانت الوحدة المصرية السورية قائمة وكان جيش الوحدة يضم المصريين والسوريين.. إلا أن سعد الدين الشاذلى يظهر فى اللحظة الحاسمة ويحيط بالضابط والمكان كله ويطلب منه فى لهجة حازمة إنهاء الأمر لضرورة قيام الطائرة فوراً، فيستجيب الضابط الذى قال إنه «من المستحيل أن يكون هؤلاء الأطفال بلون بشرتهم هذا أبناء هذا الرجل الأبيض»، لكن.. تنطلق الطائرة البلجيكية ويستيقظ الأطفال بعد أن أدوا دورهم بنجاح بعد أن تأكدوا أنهم فى السماء.. ومن الكونغو إلى الجزائر والبقاء ساعتين ومنها إلى البرتغال، لتبقى الطائرة عدة ساعات، ومنها إلى ألمانيا ليبقوا بها ترانزيت لثلاثة ليال، ثم إلى القاهرة بسلامة الله!
حمل الأطفال فى هروبهم أسماء عربية، إلا أنهم تربوا فى مصر وتعلموا العربية فعلاً حتى كبروا وحملوا شهادات عليا وعادوا إلى بلادهم. وسنواتهم فى مصر تستحق مقالاً مستقلاً، وصاروا وزراء ومسئولين كباراً، بينما يتولى السلطة الرئيس جوزيف كابيلا، نجل الرئيس الأسبق كابيلا، الصديق الوفى لمن؟ للراحل «لوميمبا» نفسه، وكابيلا هو الزعيم الذى طرد موبوتو، الذى صار رئيساً هو أيضاً بعد تشومبى ليذوق كل منهما ما فعلاه فى لوميمبا..!
هؤلاء الآن يعرفون فضل مصر وتاريخها معهم، ولا ينسون فضلها وفضل زعيمها الكبير جمال عبدالناصر أبداً.. وحتى اليوم يرغبون فى عمل أى شىء يردون به الجميل لمصر.. ويستعجلون عودتها لدورها الذى غاب طويلاً طوال أربعة عقود تقريباً، وجار استعادة الدور بكل الطرق.. ومن أجله رفضت مصر ورفض الرئيس السيسى الانسحاب من القمة العربية الأفريقية الأسبوع الماضى فى غينيا الاستوائية، حيث يبقى فى سباق مع الزمن لاسترجاع دور مصر التى تعيش على ما تركه عبدالناصر قبل أكثر من خمسة وأربعين عاماً والذى لم تأت زعامته باسم مصر للقارة السمراء صدفة.. لكن آن الأوان لتبنى مصر مجداً جديداً يستلهم من الماضى دروساً وعبراً.. ملخصه أن الخير فى أفريقا كالغرس المثمر لا يضيع أبداً!