أشعر بالشفقة والحزن على كل من يحمى الرئيس المخلوع أو يترحم على أيامه، وأشعر بالعار من الذين أوصلوا الأمور إلى أن يظهر الديكتاتور بالمحكمة مبتسماً وملوحاً بيده، ومن بقائه فى مستشفى سبعة نجوم ومعاملته وكأنه خارج ليعيش بيننا بعد كل ما تسبب فيه من دمار!
هذا الشخص هو المسئول الأول عن كل الجرائم التى حدثت بمصر منذ أربعين عاماً، ومعه دائرة ضيقة من المنتفعين وضيقى الأفق.. ولهذا لا يُسأل فقط عن جرائمه فى الفساد وسرقة ثروات مصر وتخريبه للاقتصاد وخيانته للوطن عندما صدّر الغاز مدعوماً للصهاينة.
ولا يُسأل فقط عن تقصيره فى سياستنا الخارجية وأمننا القومى، عندما فرّط فى كرامة المصريين، وتجاهل علاقتنا مع أفريقيا، وشارك فى حصار غزة، وقام بدور العرّاب لسياسات الهيمنة الأمريكية والصهيونية.
ولا يُسأل فقط عن قمع المعارضين وتزوير الانتخابات وإقامة منظومة فساد متكاملة، وتسييس مؤسسات الدولة الرسمية (غير السياسية) كالقضاء والأمن والإعلام، واستخدامها ضمن استراتيجيته للبقاء فى السلطة، والزج بهذه المؤسسات فى صراعات مع الشعب.
ولا يُسأل فقط عن سياساته الفاشلة فى التعليم والصحة، ولا عن العشوائيات، ولا عن الملايين الذين قضوْا نحبهم جرّاء تفشى الأمراض المستعصية، ولا عن فشله حتى فى جمع القمامة وتنظيم المرور!
لا يُسأل الديكتاتور عن هذا كله فحسب، وإنما يجب أن يُسأل قبل هذا عن «أم الجرائم»: تخريبه وتجريفه وتسطيحه لعقول الكثير من المصريين، وقيامه بما يشبه عمليات تسميم سياسى لقطاعات كبيرة من الناس، عندما أدت سياساته (عبر إعلامه الموجه ونظامه التعليمى الفاشل) إلى نزع الكثير من القيم والتقاليد والمبادئ من عقول الناس وزرع قناعات هدّامة ما زالت تتحكم فى عقول البعض من أهالينا الطيبين، وتحتاج إلى جهد كبير ووقت ممتد لمعالجتها.
وهو المسئول الأول عن تجريف عقول الكثير ممن يطلق عليهم «نخباً» فى الأحزاب ومؤسسات الدولة وفى الجامعات، ولهذا لدينا جيل لا يعرف الكثيرون منه إلا ما تعودوا عليه منذ أربعين سنة من ضعف للهمة وغياب لإرادة التغيير وعجز عن مجرد التفكير فى إمكانية التغيير وفى مقاومة من يقاوم التغيير، برغم وجود فرصة تاريخية لهذا بعد الثورة.
«أم الجرائم» هذه أكبر أثراً وأشد تدميراً من كل الأمور التى ذكرتها سابقاً، لأنها تمس الإنسان المصرى وتتحكم فى عقول الجموع الغفيرة التى من المفترض أن تُسهم فى النهوض والبناء.
ولهذا على «النخب» الكف عن تحميل الشعب مسئولية فشلها فى التوافق والبناء، فالشعب -الذى كان ضحية الديكتاتور- يظل أوعى من هذه النخب، وهناك جيل جديد من الشباب المتحرر من هذه القناعات المدمرة سيحل محل هذه النخب قريباً.
تقول لنا سنن الكون إن التاريخ قد حَكَمَ على الديكتاتور قبل أن يحكم عليه حفنة من قضاة الأرض، وغداً سيحكم عليه قاضى السماء بما يستحق.
وتقول لنا سنن الكون إن التاريخ سيذكر محاكمة الديكتاتور فى سطور معدودة، أما ما سيخلده التاريخ فهو عمل مَن خطط وساهم وجاهد -بحق وإخلاص وتجرد- فى القضاء على الإرث الهدّام للديكتاتور، وأسقط القناعات الهدامة التى زرعها، وسعى لبناء الإنسان الجديد، ومكّن الشعب من المشاركة.. هذه سنة كونية مرت بها شعوب أخرى، وهى بإذن الله مسألة وقت فى مصر.