السياسة الأمريكية بالمنطقة تتسم بالتخبط والعشوائية.. بعد التدخل الروسى فى سوريا نهاية سبتمبر 2015، وفشل برنامج التدريب العسكرى للمعارضة، تشكلت ميليشيات «سوريا الديمقراطية» بناء على طلبها، رغم أنها تضم أغلبية تنتمى لحزب «العمال الكردستانى»، الذى تدرجه حليفتها تركيا على قائمة الإرهاب، وتنظيمات عربية حارب بعضها بصفوف داعش والنصرة، وقاتل الآخر لصالح النظام.. الدعم الأمريكى مكنها من طرد داعش من بعض قرى وبلدات الحسكة، وتل أبيض شمال الرقة، وعين العرب كوبانى بريف حلب الشمالى، والمشاركة فى إعلان «النظام الفيدرالى» شمال سوريا مارس 2016، كخطوة على طريق إنشاء دولة كردية، رغم ذلك أقنع أوباما أردوغان بدعم عملية تحرير مدينة «منبج» التى نفذها الأكراد فى مايو، بوعد انسحابها بعد العملية إلى شرق الفرات، لكن ذلك لم يتم، وظل التمدد الجغرافى الكردى، وإنشاء كيان سياسى يدعمه، حلماً يتجسد على الأرض، وبدعم أمريكى.
تركيا نفذت عملية «درع الفرات» داخل الحدود السورية 24 أغسطس، لإقامة منطقة غربى الفرات، تمتد من جرابلس إلى إعزاز، بطول «70 كم»، وعمق «من 20 لـ40 كم»، خالية من الوجود الكردى، واستبقتها بتقنين السماح بازدواج الجنسية، ومنح الجنسية التركية لثلاثة ملايين لاجئ سورى، لتوطينهم بالمنطقة، تحت حمايتها.. العملية فرضت واقعاً جديداً على أمريكا، دفعها لتقديم الدعم العسكرى واللوجيستى، ونشر عناصر من القوات الخاصة، والضغط على الأكراد للانسحاب من غرب الفرات، وذلك لموازنة حالة الجفاء التى ألمت بعلاقاتها مع تركيا، نتيجة لموقفها من الانقلاب الفاشل، ورفض تسليم فتح الله غولن.. تركيا طورت العملية بهدف احتلال «الباب»، المدينة الاستراتيجية شمال شرق حلب، وقطعت الطريق نحو «منبج»، لمنع التقاء قوات النظام مع «سوريا الديمقراطية»، ما دفع أمريكا لإيقاف الدعم، والتبرؤ من العملية!! ووفر النجاح للوساطة الروسية فى التقريب بين «سوريا الديمقراطية» والنظام، والتنسيق بينهما لخوض معركة «الباب».
أمريكا تدرك أن تركيا لم تكن قادرة على شن «درع الفرات» دون تطبيع علاقاتها مع موسكو، وإقامة تنسيق استراتيجى معها رغم التناقضات الجذرية بين مصالحهما فى سوريا، وأزعجتها بشدة مؤشرات استعداد تركيا لتخفيف حدة العداء لرأس النظام السورى.. الغارة الجوية التى قُتل خلالها 7 عسكريين أتراك بينهم ضابطان، كادت تؤدى لصدام عسكرى مباشر بين أنقرة ودمشق، لولا جهود التهدئة التى قامت بها روسيا على مستوى القمة.. بعد اتصالين -خلال أقل من 48 ساعة- نجح بوتين فى إقناع أردوغان بعدم مسئولية روسيا أو سوريا عن الغارة، بعدها بعدة ساعات وقع انفجار هائل بقاعدة تدريب عسكرية يشرف عليها البنتاجون بالقرب من مدينة تل تمر بمحافظة الحسكة قرب الحدود التركية؛ حيث تقوم منذ سنوات القوات الخاصة الأمريكية والبريطانية بتدريب المقاتلين الأكراد، ما تسبب فى سقوط ضحايا عديدة بين القوات الأمريكية والبريطانية والمتدربين، الصحافة التركية اعترفت بأن الانفجار انتقام تركى من الأكراد!
تركيا تواجة مأزقاً حقيقياً فى إدارة تحالفاتها الخارجية؛ أمريكا لم تستجب لإلحاحها على إنشاء منطقة حظر جوى على الحدود داخل سوريا، ومنعتها من شن عمليات حربية مباشرة نسقت بشأنها مع السعودية، وتورطت فى شبهات تتعلق بالانقلاب الفاشل، وتبرأت من استهداف الأتراك لمدينة «الباب».. المفوضية الأوروبية اتهمت تركيا بإهدار الحقوق وحكم القانون، بعد القبض على رئيس حزب الشعوب الديمقراطى الكردى، ثانى أكبر أحزاب المعارضة، وثالث أكبر الأحزاب فى الدولة، وتسريح قرابة 100.000 عامل وموظف، مدنى وعسكرى، وإغلاق 107 وسائل إعلامية، واعتقال نحو 37.000 شخص.. والبرلمان الأوروبى قرر تجميد محادثات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبى احتجاجاً على «التدابير القمعية المفرطة»، وإدخال عقوبة الإعدام إلى الأحكام الصادرة من قبلها، فى ظل حالة الطوارئ التى فرضتها أنقرة منذ محاولة الانقلاب.. أردوغان رد بالتهديد بفتح أبواب الهجرة الجهنمية على أوروبا، خلافاً لاتفاقه مع الاتحاد الأوروبى فى مارس الماضى، على غلق الحدود مقابل تمكين المواطنين الأتراك من دخول دول الاتحاد دون تأشيرة.. معالجة للأزمة تتسم بالغطرسة والعنجهية.. روسيا تعطى أولوية مطلقة لمصالحها فى سوريا، لذلك ستظل أقرب للنظام ورؤيته، مهما طورت من تعاونها الاستراتيجى مع أنقرة.. إيران رغم قلقها من اتساع نطاق نفوذ الأكراد السوريين، وحجم الدعم الأمريكى المتزايد لـ«الديمقراطى الكردستانى»، إلا أنها طرف محارب فى نفس خندق النظام، ولن تسفر محاولات مولود جاويش وزير الخارجية التركى وهاكان فيدان رئيس مخابراتها فى إحداث أى تغيير استراتيجى فى موقفها.. السعودية تستشعر القلق من مرونة السياسة التركية تجاه استمرار نظام الأسد، وعدم التنسيق معها فى عملية درع الفرات رغم أن الطائرات السعودية ترابط بقاعدة إنجيرليك فى انتظار العمل المشترك ضد النظام، وتدرك المملكة أن هاجس المفاضلة التركية بين صديقيها اللدودين، إيران والسعودية، يميل دائماً لصالح الأولى، بسبب اعتمادها على النفط الإيرانى، ما يفسر مساعدتها لطهران فى التحايل على العقوبات الدولية، إبان فترة المقاطعة والحظر.. هذا الخلل يدفع السياسة التركية نحو عزلة ستدفع ثمنها من مصالحها بالمنطقة لسنوات مقبلة.
تركيا فى انتظار إعصار خلل أمنى غير مسبوق.. نتيجة للتصعيد الكردى المستمر منذ إلغاء حزب العمال الكردستانى وقف إطلاق النار، وتجميد عملية التسوية، ودعوته لحمل السلاح يوليو 2015، والعداء الكردى لـ«درع الفرات»، ومقاومتهم الشرسة للعملية.. التسويات التى تجريها الدولة السورية للسماح للمسلحين وأسرهم بالانسحاب من مناطق تقدم الجيش الوطنى، أدت إلى توجه مجموعات إرهابية لمناطق سورية لا تزال تخضع لهم، بينما أدركت مجموعات أخرى اقتراب الحرب من نهايتها، فأسرعت بالتسلل لتركيا، قبل السيطرة على الحدود.. ناهيك عن انعكاسات تراجع قوة الاقتصاد، الذى مثل صمام الأمن لمواجهة التحديات السياسية بالداخل والخارج.. صندوق النقد الدولى توقع انخفاض معدلات النمو لـ2.9% هذا العام، مقارنة بالتوقعات السابقة للحكومة «4.5%»، نتيجة لتراجع حركة السياحة وارتفاع ديون الشركات، وتراجع الاستهلاك بنسبة 2%، والإنتاج الصناعى بنسبة 3.1% خلال سبتمبر، وزيادة البطالة لـ11.3%، ما يعنى تراجع النشاط الاقتصادى، للمرة الأولى منذ 2009، والليرة فقدت نحو 50% من قيمتها خلال عامين، فى حين ارتفع الدولار بـ16% خلال 2016، بخلاف التزايد المستمر لمعدلات التضخم وارتفاع الأسعار.
تطلعات أردوغان للخلافة باتت أحلام يقظة، وتركيا تتراجع بثبات نحو عصر «الرجل المريض»، والالتفاف الشعبى حول سياسات إخوان «العدالة والتنمية» الذى تباهوا به عقب الانقلاب، انفض من حولهم، فمتى تراجع الدولة التركية رهاناتها السياسية؟!