فى خضم التصريحات الكثيرة عن ضرورة قيام المواطن بواجبه فى ضوء الأوضاع الصعبة، أليس فى الإمكان إعطاؤنا قدراً ولو قليلاً من المعلومات حول حقيقة الأوضاع، ومقداراً ولو ضئيلاً من النصائح حول كيفية خوض الحياة اليومية بما نملك من دخول محدودة؟ نسبة كبيرة من المصريين فهمت وأيقنت أن الظروف الصعبة تحتم إعادة ترتيب الأولويات، وترشيد الاستهلاك، وتغيير نمط الحياة. هذه النسبة تقوم بذلك فعلياً، سواء مضطرة نظراً لعدم وجود بدائل أو عن قناعة من منطلق أن استمرار الإجراءات الخاطئة من إعطاء الدعم لمن لا يستحق أو تحويل اقتصاد الدولة من الزراعة والصناعة والإنتاج والتصدير إلى الاستيراد والعمل فى مهن هامشية قوامها الفهلوة والسمسرة وفتح المقاهى فى كل زاوية، أمور لا تصح. لكن هؤلاء لا يستحقون أن يُتركوا فى مهب رياح الفساد العاتية، ولقمة سائغة للمسئولين والموظفين المتراخين والمتكاسلين و«المأنتخين» بعيداً عن القيام بمهام عملهم، وفريسة ينهشها رجال الأعمال والمصنعون تارة وتجار الجملة والتجزئة تارة أخرى وهلم جرا. حين ينضم أو يتزعم «جهاز حماية المستهلك» إلى دعوة الشعب المصرى لمقاطعة شراء السلع الغذائية، وذلك لارتفاع أسعار العديد من السلع بطريقة عشوائية ودون أسباب منطقية، فإن على المواطن العادى أن يقلق. نتفهم تماماً أن تصدر دعوة شعبية للمقاطعة، لكن أن يقود الحملة الجهاز الذى يفترض أن يكون يد المواطن للسيطرة على الأسعار وضبط الأسواق، فهذا هو القلق بعينه. والدول القريبة منا -على الأقل جغرافياً وعاطفياً- لديها من القوانين التى تمكن أجهزة وهيئات حماية المستهلك ما يضمن لها القدرة على التنفيذ والتفعيل وحماية المواطن، وهذه بديهيات حماية المواطنين. ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر الإمارات والبحرين والكويت. لكن ما يفعله جهاز حماية المستهلك من أنشطة تهدف إلى المقاطعة وتصريحات نارية تهدد بأنه فى حال استمرار جنون الأسعار فإنه ستكون هناك خطوات تصعيدية مخيفة تتراوح بين دعوات جديدة لمقاطعة سلع بعينها وعمل قوائم سوداء لمحلات وتجار، بل وتخصيص «يوم للمستهلك» يتم الاحتفال به سنوياً، هو مدعاة للضحك، لكنه ضحك كالبكاء على رأى «المتنبى»: وكم ذا بمصر من المضحكات... ولكنه ضحك كالبكا.
والبكا كل البكا هو ذلك ما يجرى من دق على رؤوس المواطنين من أصحاب الدخول الثابتة بغض النظر عن مستوياتهم الاقتصادية أو الحياتية أو المعيشية، بدءاً بموظف الشركة الفارهة متعددة الجنسيات، مروراً بالمهندس والمحاسب وغيرهما، وانتهاء بالعمال من المعينين بعقود ورواتب ثابتة لا تعرف للدولار طريقاً أو للتهليب وسيلة. هؤلاء يجدون أنفسهم بين شقى رحا مطالبات الترشيد وسرقات السارقين عبر واجهات تبدو شرعية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يجد الموظف نفسه مطالباً بدفع 150 جنيهاً بدلاً من مائة جنيه نظير الدرس الخصوصى حيث رفع المدرس أجره لأن الأسعار ارتفعت والمعيشة غليت، وتسديد 300 جنيه بدلاً من 200 جنيه قيمة كشف الطبيب الذى سار على النهج نفسه للأسباب ذاتها، والانصياع لرغبات سائق التاكسى الذى أوقف العمل بالعداد لأنه يرى أن التسعيرة غير عادلة، وهلم جرا. أصحاب الدخول الثابتة يجدون أنفسهم مطالبين بسد فجوات أصحاب الدخول المتغيرة ممن يكتنزون الأموال فى جيوبهم بعيداً عن أعين الحكومة (أو ربما قريباً منها ولكن برضاها)، ويعوضون فروق الأسعار دون النظر إلى ظروف أقرانهم الذين يمصون دماءهم المحدودة دون هوادة. ومن منهج «ضع يدك فى جيب المواطن القريب منك لتصرف أمورك إن استطعت» إلى عقيدة «حل مشكلتك مع زميلك المواطن صياحاً أو شتماً أو سباً أو ضرباً ما استطعت لذلك سبيلاً». خذ عندك مثلاً حال المرور والانضباط فى الشوارع، إيقاف السيارات صفوفاً ثانية وثالثة ورابعة، وذلك بعد الانتهاء من الاستيلاء على الرصيف، إما من قبل السيارات أو المقاهى المستولية على عرض الطريق أو الباعة الجوالين، حول شوارع القاهرة الكبرى إلى جراج كبير لا مفر منه. صحيح أن ونش المرور يجول بعض المناطق أحياناً، لكن هناك حالة من التعايش السلمى بينه وبين الجراج الكبير. أما بالنسبة للقيادة عكس الاتجاه فى الشوارع الرئيسية، وبلطجة باصات النقل العام لا سيما الصغيرة، والميكروباصات وسيارات ثُمن النقل المرخصة ملاكى والتى تعمل أجرة، ناهيك عن الدراجات النارية غير المرخصة وتلك التى يقودها أطفال، والملاكى منزوعة لوحات الأرقام، أو التى قام أصحابها بطمس أرقامها فقد تحولت إلى أسلوب حياة. وفى حال حاول مواطن أن يتصدى لها، فإنه مهزوم مكروب موكوس. فلا ضابط سيهب لنجدته، أو أمين يقف إلى جانبه، أو مواطن زميل يدعمه معنوياً. سألت ضابط مرور قبل أيام «لو خبط توك توك مواطناً أو سيارته؟ كيف يتصرف؟» قال بثقة شديدة: «يستعوض ربنا!» ولأنه لمح امتعاضاً واستشعر قرفاً، فأضاف بقدر أكبر من كليهما: «يعنى المفروض نجيبه إزاى وهو مش مترخص أصلاً؟»، وبالطبع لا يفوتنا العلاج فى المستشفيات، لا سيما الحكومية، حيث المريض واقع بين بَلادة الممرضات وترفع الأطباء (إلا فيما ندر)، وإنهاء المصالح الحكومية حيث عودة مؤكدة إلى «الأستاذ رشاد أجازة النهارده» و«سياسة الدرج المفتوح»، والقائمة طويلة جداً. وعودة إلى النسبة الغالبة من المصريين المستعدين للتضحية والترشيد، ألا يستحقون نظرة عميقة أو مكاشفة أكيدة أو مراقبة صميمة للإبقاء عليهم دون أن يفقدوا عقولهم بعد ما فقدوا مرارتهم؟! ما المطلوب منا تحديداً؟!