منذ خمس سنوات أجريت جراحة زرع كبد. نشرت إعلاناً فى صحيفة «المصرى اليوم» عن حاجتى لمتبرع، ففوجئت بطابور من المتبرعين تتراوح أعمارهم بين 25 و50 سنة (وهذا أحد الشروط التى طلبها الأطباء). عشت واحدة من أغرب التجارب فى حياتى. ليس هناك قانون ينظم زراعة الأعضاء فى مصر. المسألة أشبه بصفقات «بير السلم»: انت وشطارتك مع المتبرع، وكل متبرع وظروفه. هذا يبيع كبده ليكمل نصف دينه، وهذا يريد أن يزوج بناته أو يعلم أبناءه، وثالث حجز البنك على شقتهم ومهدد هو وأسرته بالـ«رمى» فى الشارع.. إلخ!. عشرات من الشباب لم يدخلوا دنيا، أو دخلوها وضاقت بهم، وعليهم، يريدون بيع أعضائهم (وهم أصحاء) لأنهم لا يجدون شيئاً آخر يُباع. كان كابوساً، وأحياناً كوميديا سوداء أنستنى آلام الفشل الكبدى ووساوس الجراحة (التى قيل لى إن داخلها مفقود والخارج منها مولود). اكتأبت أكثر مما كنت مكتئباً، فهؤلاء «الأصحاء» يبيعون بإرادتهم، أو لأن ظروفهم من الصعوبة والقسوة بحيث تركوا كل البدائل المتاحة للخروج من أزماتهم واختاروا بديلاً أشد إهانة لإنسانيتهم. لا سرقوا ولا تسولوا ولا ارتشوا ولا خانوا بلدهم.. باختصار: لم يُجرموا فى حق المجتمع، بل أجرموا فى حق أنفسهم ولسان حالهم: «نحن أحرار فى أجسامنا. نحن لم نؤذِ أحداً. نحن لم نجد وسيلة أكرم وأسهل»!.
تحت هذا السقف -سقف العوز والتعفف وقلة الحيلة وغياب القانون- أصبحت «أعضاء» المصريين سلعة، وأصبح لها سوق وسماسرة وبورصة أسعار. وأذكر أن أحد السماسرة اتصل بى وسألنى: «آخرك كام فى الفلوس؟». فقلت: المهم أن يكون المتبرع مطابقاً لشروطى. فقال إن لديه متبرعاً «مطابقاً» بسعر 250 ألف جنيه (كان ذلك عام 2011). فقلت له إن ظروفى لا تسمح بهذا السعر. فغاب بضع دقائق وعاد بمتبرع آخر «مطابق أيضاً كما قال» بسعر أقل. واتضح لى أن لديه «دوسيهات» بمتبرعين جاهزين بتحاليلهم وأشعاتهم، و«كله بتمنه»!. وأصابنى ذهول عندما اعترف الرجل أن السمسرة فى الأعضاء البشرية ليست مهنته، بل لتحسين دخله، وأنه بالأساس يملك محلاً أو مطعماً (لا أتذكر بالضبط!)، وأن المتبرعين هم الذين يأتون إليه طوعاً بدوسيهاتهم: «يا بيه الحالة صعبة والناس مش لاقية.. لا بالحلال ولا بالحرام».
المتبرع معذور، والسمسار «يحسّن دخله»: إلى هنا والأمر يمكن أن يكون مقبولاً رغم بشاعته، على الأقل لحين الإفراج عن قانون زراعة الأعضاء. أما أن يُسرق عضو من مريض على غير إرادته، وأن يكون السمسار هو الطبيب الذى يعالجه.. فهذه أم الجرائم. هذه الجريمة أشد هولاً من الخيانة والقتل والسرقة. هذه من الكبائر، وعقوبتها لا ينبغى أن تقل عن الإعدام.. وبلا محاكمة إن كانت مثبتة.
قلت فى مقال بعد إجراء جراحتى ببضعة أشهر إن الأطباء فى مصر هم «نصف المرض». وأنا واثق من أن هناك آلاف الحالات التى تؤكد أنهم أصبحوا 90٪ من المرض: إما بأخطائهم وإهمالهم، أو بـ«النفسنة» بينهم وبين بعضهم، أو بدافع الجشع، أو بجهل المريض بحالته. لكننى لم أكن أتصور أن يصل الأمر بطبيب (ورأيى أن «قسم أبوقراط» أقدس من قَسم رئيس الجمهورية أو شاهد فى محكمة) إلى ذلك الحد الذى يفتح فيه جسد مريض ويسرق كبده أو كليته ليبيعها لشخص مقتدر مقابل عمولة!. أى سفالة.. وأى إجرام؟. أى انحطاط أخلاقى وصلنا إليه؟. أى انعدام ضمير؟. وكيف يهنأ بهذه الفلوس؟.
كان أهلنا يسألوننا ونحن فى مراحلنا التعليمية الأولى: تحب تطلع إيه لما تكبر؟. وكنا فى الغالب نختار «الدكتور» لسبب ربما لم نكن ندركه، وأدركناه لما كبرنا. أدركنا أن الطب مهنة مقدسة ورفيعة ومصدر فخر، والطبيب رسول رحمة وذروة إنسانية. وها نحن أمام «جزارين» بلا ضمير. أمام نوع من المجرمين لم نعهده ولم نتوقعه.. ليس لأنه سرق أو سمسر، بل لأن المواطن المصرى لا ينبغى له بعد هذه الجريمة البشعة أن يمرض!. عليه أن يموت فى بيته معززاً مكرماً، بدلاً من أن يسلّم جسده إلى لص قاتل يرتدى بالطو أبيض.
لماذا أصبحنا هكذا: بلا ضمير.. بلا قلب.. بلا وازع من أخلاق؟. لماذا وصل انحطاطنا إلى حد أن أطباءنا («كِريمة» الطبقة المتوسطة) يتاجرون فى لحم مرضاهم (وهم غلابة، لا ظهر لهم ولا نصير)؟. نحن أمام كارثة اجتماعية.. لو بحثت فى شروطها ودوافعها لاكتشفت أنها وراء كل كوارثنا وأزماتنا: غياب الضمير. الدولار: أزمة ضمير. السكر: أزمة ضمير. انهيار التعليم: أزمة ضمير. نحن أكثر شعب يتباهى بنفسه، وأكثر شعب يعادى نفسه ويكره نفسه وينتقم من نفسه. نحن لا «ننتج» إلا ما يستهلكنا ويهيننا ويجعل من كثرة أعدادنا عبئاً وأزمة. نحن -كجماعة بشرية- نقطة فى بحر الصين العظيم، لكن الفرق بيننا وبينها كالفرق بين معابد الأقصر وزوايا الإرهاب والتخلف فى إمبابة. نحن شعب منكوب بنفسه، ولا أظن أن من حق أحد فى مصر أن يتحدث بعد الآن عن سلطة أو رئيس أو وزير أو غفير، فهؤلاء «فروع» لـ«جذر» تعفن واهترأ نسميه «الشعب»!. هؤلاء لم يصنعوا أطباء فاسدين ولصوصاً، ومهما ثُرنا على «نظام» أو «سلطة».. سنظل أوفياء لأسوأ ما فينا.. لتخلفنا وجشعنا وفساد أخلاقنا وضمائرنا. سنظل أوفياء لتلك المقولة الخالدة: «كيفما كنتم يولَّى عليكم».