حينما غرس إرهابى من أعضاء الجماعة الإسلامية سكيناً فى رقبة كاتبنا الكبير «نجيب محفوظ» (1994) بغرض اغتياله بتكليف من الجماعة.. فإنه فى واقع الأمر قد غرسه فى رقبة العصر.. وفى رقبة ضمير الأمة سعياً وراء القضاء على الفنون والآداب وبالتالى تتم سيطرة الظلاميين والتكفيريين على جميع مناحى الحياة.. أما محاولة اغتياله الثانية (الأدبية) فقد تمت من قبل شيخى السلفية «عبدالمنعم الشحات» و«ياسر برهامى»، والأول هو المستشار الإعلامى لهيئة الوصاية على الأخلاق الحميدة والسجايا العطرة، والثانى هو سفير المحرضين على إطفاء شموع الحضارة وإظلام مشاعل التنوير.. وقد تم ذلك من خلال وصفهما لأدب «نجيب محفوظ» بالانحلال والانحطاط وتحويل مصر إلى خمارة كبيرة.. والمساهمة فى هدم الأمة وشيوع الفجور والرذيلة.. والطعن الصريح فى الدين والعقيدة، حيث إن فلسفته الإلحادية تدعو إلى إعلاء موت الإله ومولد الإنسان (السوبر مان) خاصة فى روايته الشهيرة (أولاد حارتنا).. وهى ذات الأفكار التى يروج لها الغرب الملحد.. ويصفق لها.. وكانت سبباً رئيسياً فى فوزه بجائزة (نوبل).
وهكذا.. فإنه من الطبيعى أن إصدار أحكام دينية على مصنف أدبى أو فنى بحجة تكريس قيم وسجايا عطرة تسهم فى شيوع الفضيلة فى ربوع «يوتوبيا» الأرض الطيبة عن طريق ارتداء عباءة «الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر» سوف يؤدى ذلك إلى حمل لواء مصادرة الرأى الآخر.. والذوق الآخر ووأد حرية التعبير والإبداع واحتضان الفنون والآداب المؤمنة تمييزاً لها عن الفنون والآداب «الكافرة»..
انتصاراً للفضيلة التى تبكى وتنتحب من جراء اجتراء الفكر الانحلالى عليها.. واعتداء الملاعين من الفنانين والأدباء إخوان الشياطين على ثوبها الطاهر.
لذلك لم يكن غريباً ما حدث أخيراً فيما يمكن تسميته بالاغتيال الثالث لـ«نجيب محفوظ» بغرس سكين الردة الحضارية فى رقبة وطن مثخن بجراح «الإرهاب» والجهل المستشرى.. والفقر الرابض.. فى تربة خصبة مناهضة للحرية والتطور والارتقاء تأثيرها كاسح على عقول البسطاء فى إشاعة مناخ تكفيرى مستغلين انتشار ثقافة الحلال والحرام وسيطرة التفكير الرجعى والتخلف على أدمغة الناس الغارقين فى ضباب الخرافة والغيبيات.. فى ظل تراجع الصفوة من الليبراليين وأصحاب الاتجاهات التنويرية عن أداء دورهم المناهض.
ومن هنا فإن محاولة الاغتيال الثالثة هى النتيجة أو المحصلة للمقدمة المنطقية السابقة لتكفير التيارات المتشددة للفنون والآداب عن طريق خلط الخطاب الدينى والأخلاقى بالخطاب الفكرى والفنى الجمالى.. وتأتى المحاولة هذه المرة من داخل البرلمان..
حيث يرى «أبوالمعاطى مصطفى» عضو مجلس النواب المصرى أن «نجيب محفوظ» قد أفلت من عقوبة السجن التى يستحقها لأن أعماله تخدش الحياء العام.. وأنه لو كان حياً لوجبت محاكمته بهذه التهمة التى تصل عقوبتها فى قانون العقوبات المصرى القائم إلى الحبس مدة لا تزيد على سنتين أو بغرامة ما بين خمسة وعشرة آلاف جنيه..
ذلك بالرغم من أن النص الدستورى ينص صراحة على عدم جواز توقيع عقوبة سالبة للحرية فى جرائم علانية المنتج الأدبى أو الفنى أو الفكرى.
لقد أفلت «نجيب محفوظ» من عقاب الأخ المؤمن الملتزم «أبوالمعاطى» فمات.. وهو ما يدعو إلى الغيظ والحنق فلم يشف الموت غليله بالتشفى.. وكان لسان حاله «مات قبل ما يدخل السجن.. جتنا نيلة فى حظنا الهباب» على طريقة «قاسم السماوى».
أما اتهام الأستاذ بأنه «الخادش الأعظم» للحياء العام، فإنه لا غرابة -فى زمن الأضاحيك- الذى يشيع فيه الأدعياء.. أكلاشيهات غبية تتحول بالتدريج إلى مسلمات زائفة يلوكها العامة بالتبعية دون فهم أو تدبر، فتصبح أحكاماً قاطعة ومبادئ راسخة من الضرورى أن يتصدى نقاد الفن والأدب لها بتصحيحها والتصدى لذيوعها وانتشارها.. فليس هناك فى الحقيقة مصطلح يمكن بموجبه قياس «الحياء العام» بل إنه فى واقع الأمر ليس هناك «حياء عام».. و«حياء خاص».. كما أنه ليس هناك «آداب عامة.. وآداب خاصة» ولا «ذوق عام وذوق خاص».
إن تعبيرات مثل «خدش الحياء العام» أو «إفساد الذوق العام» هى جمل مطاطة وتعميم لا يجوز استخدامه أو إطلاقه دون تدقيق أو بحث موضوعى.. ذلك أن المتلقين للأعمال الأدبية أو الدرامية سواء كانت أفلاماً سينمائية مكتوبة خصيصاً للسينما أو مأخوذة عن روايات أدبية (كما هو الحال فى ثلاثية نجيب محفوظ التى أثارت حفيظة النائب البرلمانى واتخذها دليلاً على المجون).. هؤلاء المتلقين يمثلون كتلة هلامية من البشر مختلفى الأعمار والثقافات والبيئات والاتجاهات والميول والأذواق والأخلاقيات والتصورات ووجهات النظر والتركيبات النفسية والاجتماعية والخبرات الحياتية.. وبالتالى فإنهم يستقبلون ويتفاعلون وينجذبون وتؤثر فيهم تلك الأعمال تأثيرات مختلفة بالسلب والإيجاب.. بناء على تلك الاختلافات بينهم.. بل إنه من الملاحظ مثلاً أنه حتى لو اتفق مجموعة من المتلقين على أن هناك رواية أو فيلماً يسهم فى إفساد الذوق العام.. فإنهم يختلفون فى أسباب ذلك الإفساد.. هل لأن السيناريو متدنٍ أو لأن الحوار رخيص.. أو الإخراج متواضع.. أو أداء البطلة مبتذل.. مثلما يختلفون أيضاً فى نجاح أو فشل عمل درامى آخر.
لقد كنا فيما مضى نحتمى بالمثقفين والمؤسسات الثقافية المختلفة فى التصدى لدعاة التخلف وأعداء التنوير الذين لا يفرقون بين الخطاب الدينى والأخلاقى والخطاب الفنى.. ويخلطون بسذاجة وسطحية بين دور إمام المسجد وواعظ الكنيسة.. ووظيفة الأدب والفن.. والذين لو انسقنا وراء ضيق أفقهم لحطمنا التماثيل واللوحات العارية.. وحرقنا، ليس فقط أعمال نجيب محفوظ، ولكن أيضاً مسرحيات «شكسبير» و«أبسن» و«يونيسكو» وروايات «ديستوفسكى» و«هيمنجواى» و«تشيكوف» و«يوسف إدريس» وكل إبداعات التراث الإنسانى.. لنصبح والسباك الذى طعن «نجيب محفوظ» فى رقبته فى خندق واحد.. ولسادت ثقافة الهكسوس وارتكبنا جريمة تدعو إلى الارتداد الحضارى.. ولغلبت علينا آثار العهد المملوكى فى التفكير.. ولتوقف الإبداع.
إن صمت المثقفين ووزير الثقافة والمؤسسات الثقافية تجاه التطرف.. وتقييد حرية التعبير وترهيبهم والتلويح باستخدام عصا الردع لقمع تلك الحرية.. هذا الصمت الغريب هو الطعنة الحقيقية فى رقبة «الإبداع».. بل هو الذى يمكن تسميته بـ«خدش الحياء العام».