تخيل أنك مواطن مهتم بالشأن العام، ولديك مصلحة حقيقية فى أن تعرف تفاصيل مناقشات البرلمان لقانون معين ينوى إصداره، أو تريد أن تتعرف إلى تفاصيل أداء أعضاء القائمة الانتخابية التى منحتها صوتك، أو تتأكد من أن قرارك بانتخاب مرشح فردى معين كان صائباً، فماذا أنت فاعل؟
إذا كنت مواطناً متديناً، تعيش فى مجتمع يقدس الدين ويضعه فى أهم المراتب، ولديك اهتمامات دينية بعينها، وموضوعات معينة تحب أن تناقشها، وأسئلة محددة تريد أن تطرحها، ودعاة وواعظون وعلماء تسعى إلى أن تستمع إليهم، وأن تطرح عليهم تساؤلاتك، لكن النظام الإعلامى الذى تعيش فى كنفه لم يتح لك ما تريد، وقصر ما يقدم لك على موضوعات بعينها، واختر، نيابة عنك، الدعاة الذين يريد لك أن تستمع إليهم، فماذا أنت فاعل؟
هب أن لك آراء معينة فى أداء مرفق العدالة فى بلدك. أنت تحترم القضاء وتجله وتقدر رجاله وتشكر لهم جهودهم الضخمة فى إقرار العدالة، لكن بعض هؤلاء القضاء يرتكبون المخالفات الجسيمة، مثلهم مثل أى جماعة إنسانية أو مهنية.
أنت أيضاً تدرك أن العدالة لا تُقَر بأحكام القضاء وحدها، فهناك تحريات مخبرى الشرطة، والمحاضر التى يحررونها، وأخطاء بعض موظفى المحاكم، وألاعيب قلة من المحامين، وبعض ثغرات القانون، وأخيراً هناك جهاز تنفيذ الأحكام الذى قد يهتم بتنفيذ حكم ويتجاهل آخر.
هل يطمئن قلبك أكثر عندما ترى الأخبار الخاصة بوقائع المحاكمات المهمة والحيوية، والتى يثار حولها الكثير من الجدل، منشورة على صفحات الصحف ومذاعة على القنوات التليفزيونية، أم عندما تسمع قرارات المحاكم من دون أن تعرف كيف جرت وقائع المحاكمات، وكيف تم التوصل إلى الأحكام، وما إذا كان المدانون قد حصلوا على حقوقهم الكاملة فى إبداء دفوعهم، وطرح حججهم؟
إذا كنت مواطناً يعيش فى مجتمع يعرف تعدداً فى الأديان، وإذا كان هذا المجتمع لم يدخل بعد عصر الحداثة، وما زال أسيراً لمشكلات التعصب والفكر الأحادى المنغلق. وإذا كانت الحكومة غير قادرة على ضبط تداعيات التنوع الدينى، عبر إعلاء شأن المواطنة وصيانة الحقوق المتكافئة للأفراد والجماعات بصرف النظر عن انتماءاتهم وتوجهاتهم الفكرية والعقيدية. وإذا نشأت ممارسات خشنة وعدائية بين أطراف رئيسة فى هذا المجتمع؛ فهل تعتقد أن الإعلام يجب أن يحجم عن نشر الوقائع والتداعيات الناجمة عن هذه الممارسات، أم يجب أن ينشرها، بالدقة والموضوعية والإحاطة والعمق والتوازن اللازم، حتى لو كانت تتحدى الجو العام أو تكشف عناصر الخطر؟
وإذا كان بلدك يمر بفترة تحول سياسى محورى، فى وقت يسوده الاحتقان، ويهيمن عليه التصادم، ويخشى الجميع فيه من الانسداد، بلد يشرف على مرحلة قد ينهى خلالها عصراً ويدخل إلى عصر جديد. فهل من الأفضل أن يتم تحجيم وسائل الإعلام، ومنعها من نشر الحقائق والآراء والتقييمات والمعلومات، مهما كانت محبطة أو متشائمة، أم أن يتم العمل على إتاحة مساحة مناسبة من الحرية لها لتقوم بدورها فى تلبية متطلبات الجمهور وتزويده بالمعارف والمعلومات اللازمة لكى يتخذ قراراته ويبنى مواقفه ويطور سياساته؟
يقتضى الإنصاف القول إن معظم دول العالم، سواء كانت متقدمة أو متخلفة، تعرف ضغوطاً على وسائل الإعلام فى ظل وقوع الأحداث الإرهابية.
إن هذا الأمر يحدث فى الولايات المتحدة، التى أقرت قوانين سيئة السمعة تحت هول صدمة تفجيرات منهاتن 2001، كما حدث فى بريطانيا وفرنسا وبعض الدول الإسكندنافية التى ضربتها العمليات الإرهابية.
يتأثر مفهوم حرية الرأى والتعبير فى أجواء التهديدات الإرهابية وعند اندلاع الحروب والأزمات الحادة، لكن حدود ذلك التأثير يجب أن تظل مقبولة.
يقتضى الإنصاف أيضاً الإقرار بأن مجتمعنا يشهد انفلاتاً إعلامياً واسعاً، وأن الأداء المهنى فى مجال الصحافة والإعلام يتراجع باطراد، فى ظل مخالفات صارخة يتم ارتكابها كل يوم تقريباً على صفحات الصحف وشاشات التليفزيونات وأثير الإذاعات، لكن تلك الانفلاتات تقع نتيجة لعوامل عدة، على رأسها إحجام الدولة عن القيام بدورها فى تنظيم المجال الإعلامى، كما أن تلك الانفلاتات لا يمكن أن تبرر قمع الإعلام وإسكاته.
والواقع أن المرء كان يحتار حقاً ويطرح السؤال باستمرار: لماذا لا يتحدث أحد إلى هؤلاء الذين يتجاوزون، فيعطون الذرائع لأصحاب الغرض فى المنع والحظر والتكميم، ويبقوننا بلا حجج ندافع بها عن الهوامش المكتسبة فى مجال الحريات الإعلامية؟
نحن نفهم أن الواقع الإعلامى متراجع ومريض، لكن العلاج لا يأتى عبر المنع والقمع، بل عبر الإصلاح والتقويم.
وفى الوقت الذى نقدر فيه المخاطر الكبيرة التى يفرضها التحدى الإرهابى والاستهداف الإقليمى والدولى، فى ظل ظرف سياسى واقتصادى واجتماعى صعب، نعرف كذلك أن الإعلام الحر المنفتح المسئول يمكن أن يكون ظهيراً للدولة فى تلك المعارك.
علينا أن نقر بداية بأن منع بث جلسات البرلمان، أو إغلاق قناة أو منع داعية أو عالم دين من الظهور على تلك القناة أو التحدث عبر هذه الصحيفة، أو استخدام وسائل خشنة ضد ملاك وسائل الإعلام، أو منع صدور صحيفة، أو إجبارها على التوقف، كلها أمور لن تؤتى ثمارها المرجوة، إذ لم نعد فى عصر يقبل آلية المنع.
إذا لم نتح الفرص لوسائل الإعلام الوطنية، لكى تنشر وتبث بمهنية ما يتعلق بالأحداث الأمنية التى تشهدها البلاد، سيذهب المواطنون إلى وسائل إعلام أجنبية أو يستسلمون لما تبثه «السوشيال ميديا».
كان الشيخ «كشك» ممنوعاً من الظهور عبر الإعلام الرسمى قبل ظهور الإنترنت وانتشار الفضائيات والصحافة الخاصة، لكنه مع هذا وصل إلى كل بيت أراد أن يسمعه عبر «شرائط الكاسيت».
وقد أعادت «شرائط الكاسيت» نفسها الإمام الخمينى إلى إيران قائداً لثورتها من دون أن يظهر على الفضائيات أو يدلى بأحاديث للصحافة الخاصة، ومن دون أن يستخدم «تويتر» أو «فيس بوك».
تورط الأداء الإعلامى المصرى فى الكثير من الأخطاء المهنية الصارخة، فأعطى المجال ووفر الذرائع المناسبة للهجوم على «حرية الإعلام» بهدف «ضبطه وتقنينه وتحجيمه»، فى وقت كنا فيه فى أمس الحاجة إلى مزيد من الانفتاح.
وسعت السلطات إلى الضبط والتحجيم والمنع والترويع، متناسية أن لدى الجمهور «قناة ثانية»، تتمثل فى «السوشيال ميديا» وتطبيقات «الهواتف الذكية» و«القنوات الأجنبية» و«القنوات الإقليمية الناطقة بالعربية»، وأخيراً سلاح الشائعات، الذى يزيد الاعتماد عليه ويستفحل خطره كلما زادت القيود على الإعلام.
فلتنهض الدولة بدورها فى تنظيم المجال الإعلامى، وليجتهد الإعلاميون والصحفيون، عبر كياناتهم النقابية، فى تعزيز النزعة المهنية فى أدائهم، ولينظم أرباب الصناعة أنفسهم، ليطوروا الممارسة، عبر تكريس المسئولية، التى لا تتحقق الحرية وتزدهر من دونها.
سياسات المنع والقمع لن تفلح، لأن البيئة الاتصالية الراهنة لا تسمح بذلك، فقد مضى عهد «الصوت الواحد». الصحافة مصلحة عامة، والصحافة الرديئة أفضل من العتمة.