يحتاج «علم الاجتماع السياسى» وكذلك «حقل النظرية السياسية» إلى دراسة هذا المصطلح الجديد.. الذى أقترحُه للبحث والتحليل: «الثورة الغبيّة».
(1)
كان الرمز الشيوعى الكبير تروتسكى هو صاحب الأطروحة الرديئة: «الثورة مستمرة».. كانت هذه الأطروحة من أكثر الأفكار غباءً فى التاريخ الإنسانى.
ولقد جاء جيفارا يحمل لواء تلك الثورة الدائمة التى لا تنتهى.. الثورة للثورة، والرفض للرفض.. والغضب للغضب!
لقد أدّتْ مثل هذه الأفكار الممتلئة بالجهل والعنف.. إلى تدمير الأساس الوطنى والإطار الأخلاقى للثورة.. لقد أدّتْ ببساطة إلى اغتيال المنطق وإنهاء العقل فى نظرية الثورة.
اغتال أنصار «الثورة مستمرة» الأساس الحضارى للثورة.. وهو انطلاق المجتمع من حالٍ يحتاج إلى «التغيير» إلى حالٍ أفضل من «التطوير».. أى أن يكون «ما بعد» أفضل من «ما قبل».. أن يكون مجتمع «ما بعد الثورة» أكثر رقياً وأكفأ أداءً من مجتمع «ما قبل الثورة».. وأن يندم الناس على ما قد «كان» بعد أن رأوْا ما قد «أصبح».
اغتال هؤلاء من أصحاب «الثورة مستمرة» الأساس العقلى لعملية الثورة.. والرؤية الموضوعيّة لتحولات المجتمع.. على صعيد السياسة والاقتصاد والأخلاق.. ليصبح الهدف.. هو الخطاب الزاعق، والتخوين اللامحدود.. وإطلاق الألفاظ والمسميات «الجاذبة» و«الفارغة» فى آن.
(2)
تحدثتُ فى كتابى «خريف الثورة» عن سمات عامة فى معظم الثورات التى جرت فى بلدان العالم.. من عودة الثوار النبلاء إلى منازلهم.. وبقاء «الثوار» المنافقين للتفاوض والتسوية.. وعن تحول «الثوّار» إلى «تجّار».. وقضاء الثوار، الذين اختطفوا السلطة، على الثوار، الذين خسروا معركة السلطة.. واختفاء المفكرين والفلاسفة والأكثر تعليماً والأعم رؤية لصالح النشطاء السطحيين والسياسيين غير الأخلاقيين.
ثمّة جانب مهم فى هذا السياق.. هو عدم فصل بعض الثوار بين «الثورة والدولة».. وبين «النظام والدولة».. فعند بعضهم: النظام هو الدولة والدولة هى النظام، وإسقاط النظام يتطلب إسقاط الدولة.
يذهب البعض إلى أكثر وأكثر.. إلى تدمير الرموز المعمارية والبنية الأساسية والمنشآت الكبرى التى تأسست فى عهد النظام البائد أو النظم السابقة.. بدعوى إلغاء رموز الماضى.. وبدء عملية هدم ماديّة حقيقية لعدد من منشآت البلاد ومؤسساتها.. بحجة أنها جزء من الماضى الذى يجب أن يزول على مستوى المبنى والمعنى.. هنا «الثورة الغبية».
يشير مصطلح «الثورة الغبية» الذى أقترحُه للنقاش والحوار إلى «نمط ثورى يهدف إلى تدمير المنشآت والمبانى والمؤسسات التى تعد جزءاً من الدولة باعتبارها جزءاً من النظام».
(3)
لقد ذُهل المصريون من بعض «الثوار» الذين أيّدوا إحراق وتدمير مبنى الحزب الوطنى والمنشآت الأمنية من مديريات أمن وأقسام شرطة.. بحجة إنهاء جزء من النظام.. وهو العبثُ الذى امتدّ إلى مبنى المجمع العلمى فى القاهرة.. وأبنية أخرى فى أكثر من مكان.
وفى رومانيا.. أراد بعض الثوار ضد نظام الرئيس تشاوشيسكو هدم قصر تشاوشيسكو الذى يعد ثانى أضخم مبنى فى العالم بعد البنتاجون.. وأعلى رمز للعمارة والبناء الحديث فى دولة رومانيا.
كان تشاوشيسكو قد تم إعدامه.. وأصبح القصر مقراً للبرلمان.. وسواء جرى استخدامه سياسياً أو سياحياً.. فهو جزءٌ من ممتلكات الدولة.. ومن ثم هو جزءٌ من ممتلكات الشعب.. ولكن أنصار خرافات: الثورة مستمرة، والهدم التام للماضى، وسحق رموز النظام البائد.. وإعادة البناء للدولة من جديد.. كانوا مع هدم المبنى الأسطورى.. بحجة أنه كان مقراً للحكم الديكتاتورى وسلطة الرئيس.
ومن قبل كانت الثورة الفرنسية قد احتوتْ جانباً كبيراً من ملامح «الثورة الغبية».. من هدم قصورٍ وقلاعٍ وتدمير مبانٍ ومنشآت.. أما الثورة الشيوعية فى روسيا والدينية فى إيران.. فقد كان حجم التدمير لممتلكات الدولة على نطاق واسع.. وبلا حدود.
(4)
الثورة الغبيّة ليست بالضرورة وصفاً للثورة بكاملها، فقد تكون الثورة إجمالاً ثورةً غبية، أو ألاّ تكون كذلك ولكنها تحوى فى جانبها ملمحاً أو أكثر من ملامح الثورة الغبية.. أى الخلط بين النظام والدولة.. وتدمير ممتلكات الشعب بحجة تدمير رموز النظام.
فى القرن الحادى والعشرين.. ومع ضخامة التحديات الاقتصادية التى تواجه كافة دول العالم تقريباً.. تصبح «الثورة الغبية» أكثر غباءً من أىّ وقتٍ مضى.
حفظ الله الجيش.. حفظ الله مصر