كانت تقف وسط المصلين، ترتل بخشوع: (السلام لك يا مريم يا جنة وفردوس.. السلام لك يا مريم حملت الغير محسوس).. ربما كانت تتذكر زوجها الذى رحل قبل شهر واحد، أو كانت تدعو لشهداء كنيسة القديسين بالإسكندرية.. كانت تعانق وجه الله فى المكان، تشعر بنبض العذراء ينظم دقات قلبها.. ثم وقع الانفجار وبدأت المذبحة.
ما أروع أن تموت وأنت تصلى، وما أبشع أن تترك خلفك أيتاماً وثكالى، أن يصبح اسمك عنواناً للحزن ومرارة الفقد، وتتحول صلاتك إلى «جنازة» يتقبل فيها الغرباء العزاء بينما روحك هائمة تطالب بالقصاص.. تتهم الجميع بالإهمال والتقصير، تناشد الضمائر أن تستيقظ: لماذا يدفع المسيحى ثمن مصريته من دمه؟.. لماذا يمزق جلده -كل يوم- لتأتى العدالة وترممه فلا تأتى؟.. لماذا يستمع كل ساعة لفتاوى تكفيره ويلتزم بـ«ثقافة التسامح» فيعطى خده الأيسر لمن لعنوه وكفروه، واستباحوا أعراض نسائه، وحرقوا كنائسه، وهجروه من منزله.. لماذا يصمت إذا كان الصراخ أقل واجب فى بلد يرفع شعار: (لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم) فى وجه مطالب الأقباط؟!.
إنها شروط المواطنة كما حددها «الأمن» الذى يحتكر التعامل مع ملف الأقباط فى مصر.. فأين كان الأمن حين دخلت العبوة الناسفة إلى مكان صلاة النساء والأطفال داخل الكنيسة البطرسية بالكاتدرائية المرقسية.. كانت قوات الأمن تلملم أشلاء ضحاياها بعد تفجير قواتها أمام مسجد «السلام» بالهرم.
إنها حرب كافرة على الأديان، مهدت لها قناة «الجزيرة» وفتاوى التكفير والتحريض على أعراض الأقباط وممتلكاتهم، إن شئت التعرف على الجناة فى تفجير الكنيسة البطرسية حاسب كل من حرم تهنئة المسيحى فى عيده، حاكم «ياسر برهامى»، نائب رئيس الدعوة السلفية الذراع السياسية لحزب النور، الذى يطالب بفرض الجزية على المسيحيين، نبه على الإعلام (الرسمى والخاص) أن فى هذا البلد نصارى فلا يتجاهلهم ويقصيهم عن الشاشة إلا فى الأعياد!.
غير مناخ التعصب والكراهية ورفض الآخر الذى تنشره «العمائم» برشاوى وهابية.. ثم فتش عن قانون المحاكمات العسكرية أو تغليظ عقوبة جرائم الإرهاب.
اسأل لماذا تأخر الحكم على «حبارة» رغم اعترافه بالقتل، فإن كانت (العدالة البطيئة ظلم بيّن) انقل محاكمات الإرهابيين إلى القضاء العسكرى.. فخلف تفجير الكنيسة البطرسية ألف علامة استفهام وألف دليل إدانة لجهات كثيرة فى الدولة.
«نظرية المؤامرة» ليست كافية لتفسير استهداف الأقباط، ولا لتجفيف الدماء، ولا لعزاء أسر الشهداء والمصابين.. نحن نتآمر على أنفسنا بالتقصير الأمنى والعدالة البطيئة وترك الساحة مفتوحة «لتكفير الأقباط» أمام المتعصبين والمتسلفين تحت قبة «الأزهر الشريف» وفوق منابر المساجد والمنابر الإعلامية ومواقع الإنترنت. نحن نضطهد الأقباط فى الإعلام والتعليم ودور العبادة والحق فى تولى المناصب القيادية.. ثم نتجمل بإلقاء التهم على «الإخوان» و«داعش» وباقى التنظيمات الإرهابية.
صحيح أن مصر مستهدفة من «الإخوان» ومن خلفهم «قطر وتركيا»، وأن المقصود هو ضرب السياحة التى بدأت تعود، وإنهاك الاقتصاد المصرى.. ولكن ماذا فعلنا بالمقابل؟.. هل تولى الدكتور «أحمد الطيب» شيخ الأزهر تجديد الخطاب الدينى وإشاعة ثقافة «قبول الآخر» أم رفع شعار: (يبقى الحال كما هو عليه)؟!.
كل الأفكار التكفيرية موجودة فى كتب «السلف الصالح» التى يقدسها علماء الأزهر، ويُسجن من يقترب منها بالتجديد.. كل فتاوى «النخاسة» والاتجار بالنساء وجهاد النكاح يأخذها الإرهابيون من كتبهم المقدسة.. والله عار على الإسلام.
عار أن نقدم نساء الأقباط ورجالهم قرباناً لجهل وتعنت العمائم، نحن نحتاج لحظة صمت أو ربما نصمت أياماً من الحداد إلى أن تخرس أصوات «الجهاد» وانتفاضة المتاجرين بالدين تنديداً بالإرهاب!.
نحتاج حداداً لا تقتحمه صورة «شيخ» يغسل أدمغة الشباب بحديثه عن أهل الذمة، حداداً لا يجرحه بيان رسمى عن حقوق المواطنة. نحتاج أن نحزن حزناً نقياً من دبلوماسية القساوسة وبلاغات المحامين وجرجرة المفكرين إلى المحاكم وشنقهم فى ساحة الرأى العام!.
نحتاج للتأمل، ربما خففنا أوجاع الأيتام أو واسينا الثكالى، أو راجعنا أنفسنا وتوقفنا عن النبش فى عقيدة الآخر والتفتيش فى صدره.. الجرح يدفعنا للتفكير ألف مرة فى تفعيل شعار «حرية العقيدة»، وإلغاء خانة الديانة من الرقم القومى، وإشاعة ثقافة قبول الآخر.. تلك إشكاليات واقعنا التى لم تفكر فيها الشهيدة «ميس روجينا» مربية الأطفال، التى رحلت وتركتنا نتخبط بحثاً عن إجابة لسؤال واحد: «بأى ذنب قُتلت»؟.