كثيراً ما أتوقف أمام الآية الكريمة التى تقول: «والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون»، وأتساءل ألا تضع كلماتها المقدسة مفتاحاً لتجديد الخطاب الدينى بين أيدينا؟ الخطاب فى هذه الآية موجه إلى المسلمين فى عصر النبى صلى الله عليه وسلم، ويحدثهم عن واحدة من النعم التى حبا الله بها البشر، متمثلة فى الخيل والبغال والحمير التى كانت تشكل وسيلة النقل فى صدر الإسلام، وكيف أن البعض يتخذها زينة، ولعلك تعلم أن البعض لم يزل يتزين ويتفاخر بما يملكه من خيول. الجزء الثانى من الآية الكريمة يحمل فى طياته إشارة لا تخطئ لمساحات التحول فى وسائل النقل التى تتيسر للبشر عند الانتقال من زمن إلى زمن. معنى ذلك أن المسلم يجب ألا يعيش أسيراً لظرف أو عصر معين يشكل مجرد مرحلة من مراحل التطور البشرى.
مشكلة الكثيرين وهم بصدد التناول الدينى للأمور أنهم يرتدون إلى عصر النبى صلى الله عليه وسلم دون التفرقة بين الثابت والمتغير، الأمر الذى يؤدى بهم إلى عدم الفصل بين ما هو دينى يرتبط بسنة النبى، وبين ما هو حياتى ارتبط بعصر وظرف تاريخى معين كان يصلح له، وليس شرطاً أن يصلح لغيره من العصور. كان الإمام الشافعى -رضى الله عنه- واعياً كل الوعى بهذا المبدأ وهو يعدل عدداً من الفتاوى والمسائل الفقهية، عندما انتقل من العراق إلى مصر. فمراعاة شروط المكان تتعادل فى قيمتها مع مراعاة ظروف الزمان، عند تحديد المفاهيم التى تحكم الخطاب الدينى.
ويشكل قول الله تعالى «ويخلق ما لا تعلمون» قاعدة إيمانية شديدة العمق. فكل التحولات التى يشهدها البشر عن الانتقال من عصر إلى عصر تنشأ وتتطور بيد الله سبحانه وتعالى. الإنسان فى هذه الحالة مجرد أداة لتحقيق المشيئة الإلهية.. يقول تعالى: «وما تشاءون إلا أن يشاء الله»، وبالتالى تصبح الكثير من الأفكار التى تجمد الإسلام فى حقبة زمنية معينة، وتجد فيما عداها تدهوراً وبعداً عن الدين فاقدة للمعنى والقيمة، لأن كل جديد يستحدثه الإنسان فى النهاية يعكس إرادة الله التى تمكن المشيئة الإنسانية من إيجاد ما هو مناسب لكل عصر ومكان.
هذه القاعدة الجليلة تمنح المسلم العادى، وقبل ذلك تتيح للعلماء المسئولين عن تجديد الخطاب الدينى، قدراً من المرونة فى التعامل مع ظروف كل عصر. تجديد الخطاب الدينى يعنى ببساطة احترام الواقع المعاش، وأخذه فى الاعتبار عند صياغة ما يحمله من أفكار ومفاهيم. الكثير من العادات الحياتية التى سادت فى صدر الإسلام ليست ملزمة للمسلم المعاصر، طرق التفكير، وأنظمة الحكم، وأساليب التعامل الاقتصادى، التى سادت فى هذا العصر ليست ملزمة هى الأخرى للمسلم. فقاعدة «ويخلق ما لا تعلمون» يمكن أن ينسحب معناها على وسائل النقل، وأسلوب الحياة، وأساليب إدارة الاقتصاد، كما تنطبق أيضاً على أنظمة الحكم، وبالتالى يصبح المتمسكون -على سبيل المثال- بالخلافة كأساس للحكم الإسلامى مفارقين -بطريقة أو بأخرى- لمبدأ قرآنى أصيل.