أعلم أن العالم كله يعيش مرحلة باتت فيها التسريبات والتسجيلات وسيلة لكشف المستور فى زمن حروب قالوا إنها حروب الفكر وتشكيله. كما أعلم أن بلادى تخوض حرباً شرسة فى زمن رفع شعار تسييح الوعى بدلاً من تسييح الدم. ولكننى أدرك بعقلى، متواضع التفكير، وضميرى الذى يحذرنى مما نسير فيه، أن تكون التسريبات وتسجيلات مكالمات المواطنين وسيلة لمواجهة فكر وخطاب سياسى مشوه يمكن دحضه بالمنطق -إن أردنا- لا بالتجريس.
قلت هذا منذ عامين عندما أذيع على شاشة «القاهرة والناس» برنامج «الصندوق الأسود» للصحفى عبدالرحيم على، وكتبت يومها مقالة بـ«الوطن» أشرح فيها كيف أن المواطن فى الغرب مُراقَب على مدار 24 ساعة من دولته فى العمل والمواصلات والشوارع والتليفونات وبريده الإلكترونى والجوى ومواقع التواصل الاجتماعى، نعم له سجل كامل لما يفعله ويقوله. ولكن تلك المراقبة بينه وبين الدولة فقط، فإن أخطأ أو تجاوز فى حق بلاده كان القانون فيصلاً ومعاقِباً فيما تجاوز فيه. أما أن تعاقب الدولة وأجهزتها من تجاوز فى حق الوطن بتمويل أو بعمالة بتسريب مكالماته الهاتفية وبريده للبرامج وعلى شاشات القنوات، فتلك سقطة لا يقبلها العقل والضمير وتمتد لحد الإساءة للدولة نفسها التى لم تعاقب من تجاوز بل تركته يرتع ويكفيه التشهير به بمنطق «إحنا سجلنا.. تحب نذيع؟».
واليوم أكرر هذا الكلام مرة أخرى بعد أن أذاع أحمد موسى فى برنامجه مساء السبت تسجيلات للبرادعى مع بعض الشخصيات التى فندت فكرها وفعلها فى مقالات عديدة وناقشت بعضهم فى بعض الأحيان. بمن فيهم البرادعى ذاته الذى لم يقنعنى بفكره منذ اليوم الأول لمجيئه لمصر. فكانت مقالتى ضد طرحه فى «المصرى اليوم» بتاريخ 28 فبراير 2010 بعنوان «يا سادة.. الرهان على الشعب»، وهذا الرابط لها- http://www.almasryalyoum.com/news/details/197789- وقلت فيها نصاً إن البرادعى لا يمتلك رؤية التغيير الذى ينادى به قبل ثورة يناير بعام كامل ولكننى حذرت من ثورة تأكل الأخضر واليابس. ثم كانت مقالتى الثانية عنه فى «المصرى اليوم» بتاريخ 17 يناير 2012 بعنوان «البرادعى وأزمة النخبة» وهذا هو الرابط الخاص بها - http://www.almasryalyoum.com/news/details/213851 - هاجمت فيها فكره بعد إعلانه انسحابه من الانتخابات الرئاسية. لذا فحديثى ليس عن البرادعى أو أتباعه ومريديه، لكن دفاعى عن لغتنا السياسية وفكرنا الخاص بدولة المؤسسات.
دعونى أقُل إن خطاب الدولة منذ انتخاب الرئيس السيسى كان قائماً على تأسيس دولة القانون والمؤسسات التى انهارت منذ سنوات، ولكن ما يتم طرحه من تسريبات لا يعبر عن تلك الرؤية ولا يؤسس لها. بل يؤسس لدولة يمكن فيها تجريس الخصم لا محاسبته، فضحه لا هزيمته بالمنطق والحُجة بنقاش بسيط يعتمد على الأدلة والبراهين والمواقف. فالبرادعى وثلته يعانون فصاماً فى الهوية وعولمة للمبادئ وتناقضاً فى الفكر فيرون فى بلادى كل نقيصة بينما لا يرون فى الغرب شر التآمر حتى باتوا جزءاً من تلك المؤامرة. ولكن ليس بهذا الأسلوب يكون دحض المتآمر أو كشفه بل بنقاشه ومنحه الفرصة لعرض أفكاره المشوهة والرد عليها. ولنا فى جلسة نقاش إبراهيم عيسى فى مؤتمر الشباب بشرم الشيخ أسوة. حين ناقشه معارضوه فظهرت عنجهية ذاته المتعالية على الآخر الذى يطالب باحتوائه، وظهر خلطه بين الرأى والمعلومة، وإصراره على حماية الذات لا حماية الفكر.
نعم نحتاج لتجديد فى الفكر والخطاب السياسى كما هى حاجتنا له فى الفكر والخطاب الدينى، لنمنح الشعب رؤية واحدة تؤكد دولة المؤسسات والقانون ومواجهة المتآمر -عمداً أو جهلاً- بمنطق يدحض فكره وأسلوبه ومحاولاته لا بالإساءة للدولة قبل الإساءة له. نحتاج للغة تمنح الناس المعلومة التى يشكلون بها وعيهم فيقفون وراء دولتهم عن إيمان ويحمونها وهم مدركون لأبعاد القضية لا شخصنتها. فأزمة مصر ليست البرادعى ومن معه، أزمة مصر فى حاجتها إلى فكر مختلف فى جميع المجالات.