يبهرنى تفاؤل الرئيس «عبدالفتاح السيسى»، حتى فى أحلك اللحظات من عمر الشعب، وقدرته على الصمود وإحباط أى مؤامرات خارجية.
تجذبنى ابتسامة الرئيس، عفويته، ارتجاله، دموعه الأبية حين تعلن أنه إنسان بدرجة «رئيس»، الاتزان والموضوعية ومصارحة الناس بالحقائق، حتى نبرة «التحدى» أو «التهديد» حين يتعلق الحديث بالأمن القومى لمصر، أو لهجة «القصاص للشهداء».. كل هذا جزء من «كاريزما السيسى».
يدهشنى رهانه على «إرادة المصريين»، وحديثه الدائم عن «وعى المصريين».
لكن الأصل فى «كاريزما الرئيس» كان انحيازه للشعب ضد عصابة «الإخوان» فى ثورة 30 يونيو، بالإضافة إلى «حلته العسكرية» التى منحته تفويضاً شعبياً واسعاً لمكافحة الإرهاب، وثقة لا حدود لها فى قدرته على قيادة دفة البلاد وتأمينها من «الإرهاب».. ولكن...
ولكن -يا سيادة الرئيس- الشعب الذى آمن بمشروعك الوطنى، ودعم دولتك واختيارك لرجالك، لم يعد كما كان.. حتى رابطة الأبوة القوية بين الشعب ورئيسه أصبحت «مطاطية».. شىء ما تغير.
ربما خلق «الأمن» حالة من الاسترخاء، أو ربما تسبب «الفساد» فى حالة غضب، أو ربما ضاقت الدولة بـ«الشباب» فأصبحت «تيران وصنافير» رمزاً للاختلاف مع نظام لم يغير «قانون التظاهر» حتى الآن!
هناك تغيرات لا بد أن يلحظها الرئيس -بحكم خلفيته الاستخباراتية- وأن توثقها أجهزته، خصوصاً بعدما أصبحت «أحاديث الرئيس» محددة الجمهور سلفاً سواء من الوزراء وكبار رجال الدولة أو لشباب يتم اختيارهم لحضور مؤتمر «شرم الشيخ»، أو حتى مداخلة هاتفية بأحد البرامج.
(هذا الشعب لم يجد من يحنو عليه).. كانت العبارة السحرية التى جعلت الناس تبيت فى الشوارع -فى شهر رمضان- لمبايعة «السيسى».. الآن (هذا الشعب لا يجد من يسمعه)!!
تحدث الرئيس مع الإعلامى «عمرو أديب» فى برنامج «كل يوم» عن جهود القوات المسلحة فى مكافحة الإرهاب فى سيناء ورفح، مشيراً إلى أن (مصر لديها 411 كتيبة فى سيناء).. أما نحن فقد مللنا الحديث عن كتائب الإرهاب المعنوى التى تجهز الشباب وتجنده فى التنظيمات الإرهابية، عن قانون «ازدراء الأديان»، وميول الأزهر الوهابية وفساد بعض رجاله؛ لأن المواجهة تبدأ من هنا.
لكن الرئيس يصر على انحيازه للأزهر الشريف، وحصر تجديد «الخطاب الدينى» فى رجاله السلفيين، ويغض الطرف عن التيار السلفى الذى تربع داخل «مجلس النواب» من خلال الأحزاب الدينية وعلى رأسها «حزب النور» فى مخالفة دستورية فجة.. فكيف يمكن للمثقف أن يكون جزءاً من الاصطفاف الوطنى؟!
يقول الرئيس: (الجو الآن يختلف عما كان فى حرب 67 فكانت الدولة وقتها وإعلامها وأجهزتها محتشدين فى هدف واحد، حتى قبول الرئيس الراحل «عبدالناصر» لمعاهدة روجرز، أما الآن فلا يوجد أى حشد إعلامى حقيقى لدعم الحرب ضد الإرهاب).. كيف نحتشد ولو بالقلم إذا كانت الدولة بأكملها تزايد على تيار الإسلام السياسى لتثبت أنها أكثر إيماناً منهم.. كيف نحتشد وخلف من إذا كانت رؤوسنا معلقة على مشانق رجال التكفير فى الأزهر؟
أنا شخصياً أكاد أشعر بأن الرئيس وحده هو من يهتم بأحوال أقباط مصر، هو من يهنئهم فى أعيادهم أو يعزيهم، ويكلف «القوات المسلحة» بإعادة بناء ما تهدم من كنائس.. أما الدولة بأزهرها وأوقافها وعمائمها فغارقة فى سبات عميق.
جزء أصيل من مشكلة «نظام السيسى» هو غياب النخبة السياسية المدنية، وللحق فقد تم تجريف مصر فكرياً وسياسياً، فلم يعد من الممكن إيجاد «رجال أكفاء».. لكن ما ذنب المواطن؟
(المصرى رغم كل اللى شافه لسه قادر يقول لمصر أنا جنبك)، هذا يقين الرئيس، لكن -بكل أسف- الواقع مختلف: المصرى يئن فى صمت وفلذة كبده يحتضر لارتفاع سعر الدواء، أحلامه الوطنية تبدلت أصبح يحلم بكيلو سكر ووظيفة لابنه العاطل، وواسطة يخرج بها من قسم الشرطة سالماً، وجدار يستره من البرد والمطر.. فلا هو مشغول بـ«العاصمة الإدارية الجديدة» ولا هو ممن يملكون مقدماً فى «الإسكان الاجتماعى».. ولا صمته العاجز يصل إلى قصر الحكم!
نحن نسدد كل فواتير الحكومة ونكفر عن ذنوبها، من التعويم غير المدروس للجنيه إلى الفساد إلى انعدام الرؤية إلى الإهمال الإدارى.. إلى باقى ضرائب «الجباية» كاملة.
لقد تغير وجه العدو.. نحن نواجه عدواً أكثر شراسة من «الإرهاب المسلح».. نواجه «سياسة التجويع».. لم تعد تشجينا أغنية (ما تقولش إيه اديتنا مصر، قول هندى إيه لمصر)؛ فالبطون الخاوية لا تعرف الطرب.
إفقار المواطن وقهره عملية إذلال تجافى حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية.. وقبل الإعلان العالمى لحقوق الإنسان، قال سيدنا عمر بن الخطاب (رضى الله عنه): «لو ماتت شاة على شط الفرات ضائعة لظننت أن الله تعالى سائلى عنها يوم القيامة».. وبالتالى فالرهان على صبر المواطن خاسر.