«هل بات ممكناً الحديث عن قانونية أو أخلاقية التسريبات؟».. طرح هذا التساؤل نفسه بقوة علينا، بعد تسريبات د.البرادعى، وبات يشكل جانباً من النقاش العام، وأتصور أنه لم يعد لهذا التساؤل مجال كبير فى التقدير العام، خاصة أن كثيرين منا، وحول العالم قبلوا بالتسريب، واقع الحال يقول إنه لم تعد هناك أى خصوصية للشخصيات العامة، فى أى مكان بالعالم، فى عملهم أو حتى فى حياتهم الخاصة.
(1)
فى مصرنا العزيزة، كان أشهر تسريب جرى فى الثمانينات، لوزير الداخلية المرحوم زكى بدر، كان الرجل فى جلسة مغلقة فى بنها، على الأغلب، وكان من المفترض أنه بين أبناء الحزب الوطنى -الحاكم- بالمحافظة وقياداتها، وجرى تسريب شريط كامل بحديث الرجل، ونشرَ فى جريدة «الشعب»، وقيل الكثير وقتها عمن وقف، أو كانوا وراء هذا التسريب، واعتبر معظم الصحفيين أن ما حققته جريدة الشعب، خبطة صحفية بكل المعانى والمقاييس، وباركته نقابة الصحفيين، انتهت العملية بإقالة السيد الوزير، ولم نسمع يومها كلمة عن قانونية أو أخلاقية ذلك التسريب.
بعد ثورة 25 يناير، جرى اقتحام عدد من مقرات مباحث أمن الدولة، وجرى تسريب بعض ملفات وأوراق شديدة الخصوصية، دون التأكد من صحة ما ورد بها، لعدد من الشخصيات، الذين اعتبروا من الفلول أو أراد البعض اغتيالهم معنوياً، فى صراعات ما بعد ثورة يناير، اعتبرت التسريبات يومها «إنجازاً ثورياً».
لا يتوقف الأمر على مصر، قضية ووترجيت، فى الولايات المتحدة، كانت تسريبات حول الرئيس «نيكسون»، أدت -فى النهاية -إلى استقالته.
فى الانتخابات الأمريكية الأخيرة، حدث الكثير من التسريبات، سواء للمرشحة الديمقراطية «هيلارى كلينتون»، أو المرشح الجمهورى «دونالد ترامب»، وكذلك «كولن باول» العضو الجمهورى البارز، والذى كان مطروحاً ترشحه للرئاسة الأمريكية فى وقت من الأوقات، بل إن مجلس الأمن نفسه قَبِلَ بالتسريبات، وأقر بها، حين كان يتم التجهيز لغزو العراق سنة 2003، ففى كلمته باجتماع المجلس استشهد وزير الخارجية الأمريكى «كولن باول» بمحادثة تليفونية بين اثنين من القيادات الوسيطة بالجيش العراقى، ليخلص منها «باول» إلى أن العراق لديه أسلحة نووية، ولم يتخلص منها، كما ادعت العراق!!، وتساءل العالم يومها عن مدى دقة ما ورد بالمكالمة وعن مدى صحتها وليس عن مدى قانونيتها؟!!
الأسبوع قبل الماضى تم تسريب مكالمة لمسئول بالسفارة الإسرائيلية فى لندن، يتحدث فيها عن ضرورة الإطاحة بوزير بريطانى معين، واعتذرت إسرائيل عما ورد فى المكالمة، ولم يتوقف أحد أمام قانونية أو أخلاقية التسريب.
ولماذا نذهب بعيداً، «ويكليكس» ليست سوى عملية تسريب.. وفى مصر انتشرت التسريبات فى أعقاب ثورة يناير 2011، وفى بدايات حكم الرئيس السيسى، جرى تسريب مكالمات، قيل إنها لمسئول فى مكتب السيد الرئيس، ولم يمتعض أحد يومها، ولا أثيرت مسألة الأخلاقيات والقانون.
وهناك برنامج «الصندوق الأسود»، الذى قدمه على إحدى الفضائيات الدكتور عبدالرحيم على، ولم يكن يقدم معلومات جديدة فقط، بل قام بعملية «تجريس»، تناول به نشطاء ثورة 25 يناير، يومها أثيرت المسألة القانونية والأخلاقية، أو من وراء التسريب؟، وهو ما تكرر هذا الأسبوع مع التسريبات التى قام بها أحمد موسى للدكتور البرادعى، فى برنامجه «على مسئوليتى».
(2)
فى تسريبات د.البرادعى، توقف فريق من المتابعين أمام ما اعتبر «بذاءات» وردت على لسان البرادعى بحق عدد من الأشخاص، وللوهلة الأولى، فإن الألفاظ والأوصاف التى استعملها د.البرادعى بحق زملاء له أو بحق الشباب، الذين وثقوا به، وتلك التى أطلقها على الجمهور العام، تبدو صادمة، وفى تصورى أنها لا تعبر عن «بذاءة»، أو لسان ينفعل فى التعبير، بقدر ما يكشف عن نظرة استعلاء، تصل إلى حد الاحتقار للآخرين، بل للجميع، إلا فيما ندر، ويبدو أن هذا الموقف يتكون لدى بعض الشخصيات التى تعيش وفق الطابع الأممى للمؤسسات التى يعملون بها، هؤلاء يكون الأمر فيهم، بين رؤية إنسانية، عالمية، متسامحة، محبة للجميع، أو رؤية تقوم على ازدراء تام للآخرين، تحديداً من هم خارج تلك الدائرة الأممية، ومن التسريبات ومن أمور أخرى سابقة، واضح أن د.البرادعى من فريق الاستعلاء، فريق قريب من الرؤية الاستعمارية، أو الاستشراقية لبلادنا ومجتمعاتنا، التى تقوم على أن الجميع جهلاء ومتخلفون.. حيوانات.. وغير ذلك، وأتصور أن هذا بدا فى كثير من مواقفه.
إذا ابتعدنا عن هذا الجانب فى التسريبات، فإن جوهر ما يقوله، ليس جديداً، كلنا كنا ندرك منذ فبراير 2011 أن مشكلات شباب يناير كثيرة، ومن بينها الانقسامات والتباينات الحادة، وأن كل فصيل منهم راح يسلم نفسه لجهة أو تيار ما، وأن بعضهم اتسم بغطرسة وغرور شديدين، من دون أن يستمع إلى نصح أو توجيه من أحد.
(3)
أخطر هذه المكالمات، هى تلك التى كانت مع المسئول الأمريكى، والتى تثبت أن البرادعى كان متبنياً تماماً وجهة النظر الأمريكية فى مصر وفى المنطقة، وأنه يدخل معبراً عن الجانب الأمريكى فى المنطقة، خاصة تلك التى طرحها بخصوص إيران وتركيا، وأنه مستعد أن يعرض على وزير الخارجية الإيرانى، الاقتراحات الأمريكية، باعتبارها واردة منه هو، وليست منهم..
شخصية د.البرادعى ودوره، بحاجة إلى دراسة هادئة ومتأنية.