نُناقش اليوم بعض المواد الدستورية المفصلية، التى لم يتم تفعيلها، بل أكثر من هذا فقد أُهدرت نتيجة تصرفات وقرارات مؤسسات الدولة!!!
ولنبدأ مسلسل إهدار الدستور من آخر حلقاته، وكانت تضم بضعة تسريبات بثّها أحد البرامج من قناة فضائية خاصة لتسجيل مكالمة هاتفية بين الدكتور محمد البرادعى والفريق سامى عنان رئيس الأركان السابق. وبغض النظر عن مضمون المكالمة المسجّلة وتوقيتها، فإن مجرد تسريبها وبثها على قناة فضائية يمثل جريمة متكاملة أهدرت نصاً دستورياً يحمى حرمة الحياة الخاصة ويُجرّم التنصت على وسائل الاتصال بجميع أشكالها، إلا بضوابط محدّدة فى النص الدستورى، كما يتضح من المادة 57 من دستور ثورة 30 يونيو أن «للحياة الخاصة حرمة، وهى مصونة لا تمس. وللمراسلات البريدية، والبرقية، والإلكترونية، والمحادثات الهاتفية، وغيرها من وسائل الاتصال حرمة، وسريتها مكفولة، ولا تجوز مصادرتها، أو الاطلاع عليها، أو رقابتها إلا بأمر قضائى مسبّب، ولمدة محددة، وفى الأحوال التى يبينها القانون. كما تلتزم الدولة بحماية حق المواطنين فى استخدام وسائل الاتصال العامة بجميع أشكالها، ولا يجوز تعطيلها أو وقفها أو حرمان المواطنين منها، بشكل تعسُّفى، وينظم القانون ذلك».
ثم أتبع مقدم ذلك البرنامج التسريب الأول بآخر دون أن يمارس أىٌّ من المسئولين عن حماية الدستور وإنفاذ القانون مسئولياتهم فى منع ذلك العدوان على الحياة الخاصة وإهدار الدستور. وهذا الصمت الرسمى مستمر منذ قدّم أحدهم، وهو عضو فى مجلس النواب حالياً، برنامجاً خصّصه لبث تسريبات كان عنوانه «الصندوق الأسود»، الذى استمر شهوراً دون أدنى مساءلة من أى جهة تنفيذية أو تشريعية أو قضائية، ولم يتوقف إلا بقرار من مالك القناة، حين هاجم مقدم البرنامج صديقاً له من كبار رجال الأعمال الذى كان له وجود على الساحة السياسية فى ذلك الحين، فتم وقف البرنامج على الهواء.
وثمة مخالفة دستورية مستمرة منذ يونيو 2016، والمخالف فى هذه الحالة هو مجلس النواب «الموقّر»، الذى أقسم رئيسُه وأعضاؤه على احترام الدستور، وهم المعنيون بالدرجة الأولى بتنفيذه وتفعيل مواده!! إذ لا يزال مجلس النواب «الموقر» ممتنعاً عن تطبيق حكم محكمة النقض بتصعيد د. عمرو الشوبكى لعضوية المجلس بعد أن تحقّقت المحكمة من حصوله على أصوات تزيد على منافسه الذى حصل فعلاً على عضوية المجلس، وذلك بالمخالفة لنص المادة 107 الذى كان يقضى بأن «تختص محكمة النقض بالفصل فى صحة عضوية أعضاء مجلس النواب، وتقدم إليها الطعون خلال مدة لا تجاوز ثلاثين يوماً من تاريخ إعلان النتيجة النهائية للانتخاب، وتفصل فى الطعن خلال ستين يوماً من تاريخ وروده إليها. وفى حالة الحكم ببطلان العضوية، تبطل من تاريخ إبلاغ المجلس بالحكم».
ونأتى إلى مخالفة دستورية أخرى غض مجلس النواب «الموقر» طرفه عنها، وهى إقدام الحكومة على توقيع اتفاق مع صندوق النقد الدولى والحصول على قرض بقيمة 12 مليار دولار، وتسلُّم الشريحة الأولى منه فعلاً، دون الحصول على موافقة المجلس «الموقر» كما «كانت» تقضى بذلك المادة 127 بأنه «لا يجوز للسلطة التنفيذية الاقتراض، أو الحصول على تمويل، أو الارتباط بمشروع غير مدرج فى الموازنة العامة المعتمدة، يترتب عليه إنفاق مبالغ من الخزانة العامة للدولة لمدة مقبلة، إلا بعد موافقة مجلس النواب».
كما يغض المجلس «الموقر» طرفه أيضاً عن عدم تقدّم الحكومة ببيان عن نتائج أدائها منذ تقدّمت ببرنامجها إلى المجلس فى مارس 2016، وحصلت بموجبه على ثقة «غير مستحقة» من المجلس «الموقر» فى ضوء الكثير من الملاحظات السلبية عن برنامج الحكومة، التى تردّدت فى اجتماعات المجلس ولجانه قبل التصويت عليه، ورغم أن رئيس الحكومة أعلن عدة مرات عن إرسال تقرير الأداء إلى المجلس منذ أسابيع!
وتتعدّد المواد الدستورية المهدرة نتيجة ممارسات سلطات الدولة، مما يُفقد الدستور قيمته الفعلية ويحيله إلى نصوص يخالفها المسئولون عن تنفيذها!! منها مادة 92 التى نصّت على أن «الحقوق والحريات اللصيقة بشخص المواطن لا تقبل تعطيلاً ولا انتقاصاً. ولا يجوز لأى قانون ينظم ممارسة الحقوق والحريات أن يُقيّدها بما يمس أصلها وجوهرها». إذ رأينا أن قانون تنظيم الحق فى التظاهر قد اعتدى على ذلك الحق وحكمت المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية المادة العاشرة منه التى كانت تنص على أنه يجوز لوزير الداخلية إلغاء التظاهرة بعد تلقى إخطار بها. وقالت المحكمة إن القضاء فقط هو المخول له رفض أو قبول الإخطار بالتظاهر، وليس السلطة التنفيذية «التى تراجع فقط البيانات المطلوبة قانوناً فى الإخطار». وأكدت -فى منطوق حكمها- أن الدستور فرض قيوداً على السلطتين التشريعية والتنفيذية، لصون الحقوق والحريات العامة.
ومن المهم الإشارة إلى أن ذلك القانون بما يتضمّنه من مادة حُكم عليها بعدم الدستورية، كان مجلس النواب «الموقر» قد مرّره، ووافق عليه ضمن القرارات بقوانين التى صدرت قبل تشكيله، التزاماً بالمادة 157 من الدستور!!!
ومن أسف أن المواد الدستورية المهدرة كثيرة، ومنها المادة رقم 44 التى كانت تنص على أن «تلتزم الدولة بحماية نهر النيل، والحفاظ على حقوق مصر التاريخية المتعلقة به، وترشيد الاستفادة منه وتعظيمها، وعدم إهدار مياهه أو تلويثها. كما تلتزم الدولة بحماية مياهها الجوفية، واتخاذ الوسائل الكفيلة بتحقيق الأمن المائى ودعم البحث العلمى فى هذا المجال. وحق كل مواطن فى التمتّع بنهر النيل مكفول، ويحظر التعدى على حرمه أو الإضرار بالبيئة النهرية، وتكفل الدولة إزالة ما يقع عليه من تعديات، وذلك على النحو الذى ينظمه القانون». ويُعتبر تخاذل الدولة فى التعامل مع قضية سد النهضة الإثيوبى والمهدّد لحصة مصر من مياه النيل، الذى كاد ينتهى إنشاؤه، ولم تتمكن الحكومة المصرية الرشيدة من التوصل بعد إلى اتفاق مع إثيوبيا والسودان بشأن المكتب الاستشارى الذى سوف يدرس احتمالات إضرار السد بمصر، مما يمثل مخالفة صريحة لنص المادة الدستورية التى تُلزم الدولة «باتخاذ الوسائل الكفيلة بتحقيق الأمن المائى»!!! كما تُعتبر التعديات المستمرة على نهر النيل والإضرار بالبيئة النهرية مخالفة لما قصده الدستور بحق المواطن فى التمتّع بنهر النيل!
وما زالت الممارسات القائمة على التمييز بين المواطنين مستمرة، رغم نص المادة 35 بأن «المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم لأى سبب، والتمييز والحض على الكراهية جريمة، يعاقب عليها القانون. وتلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على جميع أشكال التمييز».
ونختتم المقال بتذكير مجلس النواب «الموقر» بأنه لم يلتزم بإصدار قانون للعدالة الانتقالية فى أول دور انعقاد له بعد نفاذ هذا الدستور، وأنه أهدر المادة 241 من الدستور التى كانت تنص على هذا الالتزام!!!!!!!
ومن غير شك، أن ممارسات سلطات الدولة المهدِرة لحقوق وحريات نص عليها الدستور، والتى ذكرنا بعضاً منها فى هذا المقال، هى بالقطع مؤثمة وفق المادة 92 والمهدَرة هى الأخرى!!!
وقد استخدمت فى ذكر تلك المخالفات الدستورية، الفعل الماضى «كان» باعتبار أن إهدار نصوص دستورية وافق الشعب عليها إنما بجعلها والعدم سواء!!!!