طرحنا فيما سبق ثلاثة أسئلة فى معرض إعادة النظر المذكورة: هل كانت هنالك «يوتوبيا» فى ميدان التحرير؟ وماذا عن وصف الحدث بالثورة، كما ارتضينا فى الدستور؟ ثم، ماذا بقى من إيجابيات وسلبيات؟
تمت فى المقال السابق مناقشة السؤال الأول، وفى هذا المقال نستكمل المناقشة، آملين أن تكون إعادة النظر فى يناير أو إعادة زيارته فى ذاكرة مبادرة منا تعفينا من أن تزورنا أحداثه مرة أخرى، لأن من يرحل لا يعود، وتبقى ذكراه ودروسه المستفادة، التى نعظم ما فيها من إيجابيات، ونتلافى ما فيها من سلبيات، متوخين صالح الوطن ومستقبله.
والآن نتساءل: هل كانت يناير ثورة؟
كما قلنا، هى كذلك وفقاً للدستور، حتى وإن اختلف علماء السياسة حول ذلك. عموماً، الاهتمام بالعلم واحترام معطياته ما زال «بعافية حبتين»، كما نقول فى أحاديثنا الدارجة. لكنها، وباتفاق الجميع، حراك مجتمعى نبيل فى مجمله، كان له كل ما يبرره: فساد وفقر وبطالة، نمو يستفيد منه القلة، لا تنمية تحسن نوعية الحياة للجميع، نظام تحلل من طول البقاء فى سدة الحكم، ويريد توريث أوضاعه المتردية لصبيته المدللين، لا لكل شباب الوطن. وكشهادة حق، كان هنالك من يمكن وصفهم «برجال دولة»، حاولوا الإصلاح من الداخل وكذلك رموز للمعارضة المخلصة تدعو إلى التغيير السلمى، ولم يكن بمقدورهم ذلك فى نهاية الأمر.
ثم جاءت يناير، حراك بلا رأس، كما تفاخر البعض، دون أن يدرك أن ذلك يعنى غياب العقل الذى يوجهها ويرشد مسيرتها. لقد أساء إليها العديد ممن ادعى حق الحديث باسمها، وباسم الملايين الذين شاركوا فيها، وهم الذين يسمون «ينايرجية»، وما زالوا يفعلون ذلك. كما أساءت إليها الشبهات المحيطة بعلاقات بعض من يقوّمون أنفسهم باعتبارهم «نشطاء حراكها الثورى» من الصبية المارقين، وعواجيز التويتات الضالين والمضللين. لم يكن هنالك من يستطيع أن يتحمل مسئولية التغيير والحكم، وحمل بعضهم من يعد من النظام السابق على الأعناق ليكون رمزاً لهم.
أخيراً، إذا كان الحكم بالنتائج، كيف نقيّم يناير؟
هنالك إيجابيات عديدة، لا يمكن لمنصف لها ولوطنه أن ينكرها، ومن الموضوعية أن نبدأ بها: استعادة الشعب لدوره، الذى لا يمكن تجاهله، لأنه كما علمتنا يوليو، هو القائد والمعلم وكسر حاجز الخوف والسلبية اتصالاً بالنقطة السابقة تأكيد البعد الحضارى لوحدة الصف فى اللحظات الحاسمة من تاريخ الوطن، رغم أن ذلك لا يرضى حضرات الينايرجية والاستعداد لتقديم التضحيات من أجل تحقيق الهدف كذلك وطنية وإخلاص وتجرد ملايين المشاركين.
وإذا كنا قد أوردنا الإيجابيات أولاً، فإن الاستفادة من دروس يناير تقتضى أن تذكر السلبيات أيضاً، دون أن يعنى ذلك إدانة أو كراهية أو رفض حدث هائل فى تاريخنا الحديث، له ما له وعليه ما عليه، وكلاهما كثير.
فتح هذا الملف وكشف حقائقه الموثقة يطهر يناير من الأدران التى لحقت به، لو يعلم دراويشه ومحبوه. لقد قلنا إن أحداث يناير كانت الطريق إلى يونيو، لكن بعض «الينايرجية» يساندون من اختطفها فكراً وفعلاً، كيف نفهم ذلك؟ ثم ماذا عن «الانفلات الإعلامى» الفظيع، الذى أفرزته، «بنجومه» التى تشع ظلمة وتضليلاً وأحداثاً للفرقة فى الداخل والخارج؟ ناهيك عما تضج به وسائل التواصل الاجتماعى من فضلات ونوتيتات حقيرة ومغرضة. دعونا لا نسترسل، حتى نتفادى الانفعال، ونذكر بحسم أن كل من لا يشاركنا فى تجاوز ما نواجهه من تحديات ليس منا، حتى لو ادعى انتسابه إلى يناير أو يونيو أو حتى يوليو وثورته، لأنه قرر أن ينتسب إلى أعدائنا. لقد أدى كل ما سبق، بإيجابياته وسلبياته، إلى الحاجة الملحة لإعادة تأهيل الدولة وتكليف جيشها الوطنى بلعب الدور الأكبر فى ذلك. هذه هى خلاصة إعادة زيارة يناير أو النظر فيه كما أراها، مكرراً أنها جهد المقل، القابل للنقد أو النقض، ومختاراً «تحيا مصر» شعاراً ومساراً، ولو كره الكارهون. كل يناير ومصر بخير، آمنة من شرورهم.