هذه القصة من شهودها.. وهى رأساً من أطرافها ومن رواتها إلينا وإلى القراء مباشرة.. والفرق شاسع بين النقل بين من رأى ومن سمع.. وخصوصاً أن معظم الحواديت والقصص الموجود الآن عن أحداث ووقائع تاريخية تتداول أصلاً نقلاً عن من لم ير ولم يسمع!
ناقل القصة شخصية مصرية معروفة وهو محل تصديق عند المصريين عدا جماعة الإخوان، وربما كان ذلك دليلاً إضافياً على صدقه.. والمنقول عنه قيادى إخوانى سابق توفى قبل سنوات وكان طرفاً أصيلً فى الموضوع.
كان الزعيم الخالد جمال عبدالناصر فى إثيوبيا التى استقبله فيها صديقه الإمبراطور الإثيوبى الراحل «هيلاسلاسى».. كانت العلاقة مدهشة بين الثائر والإمبراطور رغم اختلاف التوجهات.. فالثوار يرتاحون أكثر لوجود الثوار حولهم فى السلطة بالدول الأخرى لإيمان الثائر أن الملوك والأمراء ليسوا الأحق بحكم بلادهم وإنما الشعوب، لكن كانت عين عبدالناصر الدائمة على أمن مصر القومى وعينه بالتأكيد على تأمين مصدر الحياة للمصريين وهى مياه النيل، ولذلك كانت جبهة تحرير «إريتريا» هى حركة التحرر الوحيدة فى أفريقيا التى لم يساعدها عبدالناصر حتى لا يغضب إثيوبيا بل ووافق على أن يكون مقر منظمة الوحدة الأفريقية هناك.. وكان يؤمن بضرورة بناء علاقات قوية بإثيوبيا، خصوصاً أن الشعب الإثيوبى على مذهب واحد مع الأرثوذكس فى مصر حتى رغم انفصال الكنيسة هناك عن التبعية للكنيسة القبطية فى مصر، لكن ظلت العلاقة الروحية فوق أى خلافات تفصيلية أخرى!
قضى عبدالناصر زيارته التى ناقش فيها قضايا مشتركة وأوضاع القارة وتدخل الدول الكبرى لدعم بقاء دول أفريقية تحت الاحتلال بمختلف صوره من الفرنسى إلى البريطانى ومن البلجيكى إلى الهولندى، وكذلك صور التبادل التجارى والمشاريع المشتركة والصراع العربى الإسرائيلى وغيرها من الموضوعات وجاء وقت عودة عبدالناصر إلى القاهرة!
كانت العادة هى تبادل الهدايا وخصوصاً أن لإثيوبيا (الحبشة سابقاً) سمعة طيبة فى الهدايا التى تحمل بعداً تذكارياً، ورأى الإمبراطور هيلاسلاسى أن المصحف ربما يكون هدية قيمة للزعيم المصرى وترمز للتسامح من حاكم دولة له مكانته الروحية أيضاً، وتقبل عبدالناصر الهدية بسعادة بالغة وبابتسامته المعروفة، وحمل مساعدو الرئيس المصحف التذكارى ومنه إلى الطائرة مباشرة!
فى الطائرة وفى الطريق إلى مصر وبينما الرئيس يراجع عدداً من القضايا مع مرافقيه، ومنها حديث عن شخص هيلاسلاسى نفسه ومدى حبه لمصر، طلب عبدالناصر فجأة المصحف التذكارى بتصميمه الرائع وفتحه وبدأ فى مطالعة صفحاته والقراءة فيه، إلا أن عين الزعيم وقعت على بعض الآيات التى صاح فجأة أنها غير صحيحة وتحمل أخطاء فى النص القرآنى نفسه وليست فقط أخطاء نحوية!
أعاد الرئيس الأمر فى صفحات أخرى فوقعت عينه أيضاً على أخطاء أخرى لا علاقة لها بقراءات القرآن التى تختلف فى بعض الأحرف ولكن تتفق فى المعنى فأغلق المصحف وطلب أن يذهب المصحف إلى مكتبه!
وصل الزعيم إلى القاهرة وفى اليوم التالى طلب الاتصال بالدكتور فاروق الشاوى وكان إخوانياً وترك الجماعة مع من تركوها وصار فى خصومة معها ومع قياداتها، مثله مثل الكثيرين تركوها وانصلح أمرهم وأمر دينهم، وكان من بينهم الدكتور الشاوى مع الشيخ أحمد حسن الباقورى والدكتور عبدالعزيز كامل، وتجربتهما فى تولى وزارة الأوقاف رائعة وخصوصاً فى ملف التصدى للتطرف!
وصل الدكتور «الشاوى» إلى الرئاسة وكان محل ثقة الرئيس، وهناك اقترح «الشاوى» طباعة مصحف جديد وتوزيعه فى أفريقيا وإبلاغ الإمبراطور الإثيوبى بالأمر ليتدخل ليعيد طباعة القرآن فى إثيوبيا على وجه صحيح.. وهنا قال جمال عبدالناصر: إن نسخه مسموعاً سيكون أوقع من النسخة المقروءة، فكثيرون سيفضلون الاستماع للمصحف لأن ذلك أسهل خصوصاً مع نسبة كبيرة من الأمية تعانى منها بعض الشعوب الأفريقية وقتها، وسأله: من أفضل القراء الموجودين الآن؟.. فرد الدكتور توفيق الشاوى أنه شيخ مشايخ مصر القارئ محمود خليل الحصرى، فوافق الزعيم على الفور وأثنى على الشيخ، وطلب من «الشاوى» الاتفاق مع الشيخ «الحصرى» أن يقوم بتسجيل المصحف كاملاً وأن يطبع على أسطوانات تذهب منه إهداءات لكل دول القارة، ثم تطور الأمر وكان نواة إذاعة القرآن الكريم التى صار الشيخ الحصرى قارئها الأول، وترتيله ومصحفه المعلم من معالم الإذاعة وهو ما بقى حتى اليوم!
القصة رواها الدكتور «الشاوى» بنفسه للدكتور ثروت الخرباوى، الذى رواها لنا وعنده الكثير مما يروى ويحق معرفته ويستحق الاستماع له، وقد حكاها له الدكتور «الشاوى» بنفسه قبل أن يترك «الخرباوى» جماعة الإخوان وقد رواها له ليثبت له أن عبدالناصر كان مسلماً أكثر من الإخوان، وكان مؤمناً أكثر منهم، وكان غيوراً على دينه أكثر منهم، وكان متسامحاً مع غير المسلمين أكثر منهم، ويضيف «الخرباوى»: وكان عارفاً بآيات القرآن أكثر منهم.. ربما لو كان رئيساً آخر ما انتبه لأخطاء فى كتابة القرآن، وهذا لا يتم إلا من حافظ له أو قارئ له بغير انقطاع!
رحم الله الزعيم الخالد الذى نروى عنه ما نروى فى ذكرى ميلاده التاسعة والتسعين، ولا تتوقف الحملة ضده يقودها الإخوان وآخرون من دونهم لهم عند الرجل ثأر لأسباب عائلية، ومعهم قوى خارجية تستهدف نموذج الاستقلال الوطنى قبل استهداف شخص عند ربه منذ 47 عاماً، وبينهما إعلام غبى أراد نفاق رؤساء فى السلطة على حساب زعيم راحل، فرددوا معاً معزوفة الإخوان زوراً وبهتاناً تشوه تاريخاً مجيداً لأكثر حكام مصر السابقين شرفاً ونزاهة.. وأكثرهم قرباً للفقراء والكادحين والبسطاء.. وأكثرهم حسماً لمصلحتهم.. وأكثرهم بناء لمصر فى التصنيع، وأكثرهم رعاية للقوى الناعمة بكل صورها فكانت فى مجدها فى الأدب والسينما والمسرح والأغنية والأكثر دعماً للدول العربية والأفريقية الأخرى فى العلم وفى التعليم، حتى رحل ونحن رأس برأس مع كوريا الجنوبية بل كنا نسبقها حين جاء رئيسها «بارك هى» لينقل تجربة مصر فى ذكرى مرور عشر سنوات على الثورة عام 1962 رغم الحروب والحصار، وبلا أى دعم من أمريكا أو غيرها، وبغير تحويلات للمصريين ولا بغيرها من الموارد.. فكنا كباراً كباراً نتزعم العرب وهذا قدر ونتزعم أفريقيا وكان أيضاً قدراً.. رحمه الله وغفر له بقدر ما أعطى وبقدر ما قدم لأمته وشعبه وبحق كل حرف من حروف القرآن نوراً له وعليه وهو بين يدى العزيز الحكيم..!