تصريح لافت جاء على لسان «كريس جارفيس»، رئيس بعثة مصر فى صندوق النقد الدولى، من ضمن ما جاء فيه: «لا نستطيع توقع سعر صرف محدد للجنيه المصرى، لأنه انخفض بعد التعويم أكثر مما توقعنا، وكنا مخطئين فى ذلك»، وقال أيضاً: «المصريون يمكن أن يستفيدوا على المدى الطويل من الإصلاحات والتعويم، لكن الفقراء سيعانون بشكل كبير». توقيت التصريح يستوجب النظر، فهو يأتى قبل عدة أسابيع من الزيارة، التى ستقوم بها بعثة صندوق النقد الدولى لمصر، لنظر منحها القسط الثانى من الشريحة الأولى لقرض الـ12 مليار دولار. وعبارة «كنا مخطئين» تعنى ببساطة أن البعثة لم تدقق فى المرحلة الأولى لعملها، فهل يعنى ذلك أن الزيارة المقبلة سوف تكون أشد صرامة من سابقتها، على مستوى التأكد والثقة من المعلومات التى سيتقرر فى ضوئها منح مصر القسط الثانى من الشريحة الأولى؟!. لا يستطيع أحد أن يضع إجابة عن هذا السؤال فى الوقت الحالى، والأوجه أن ننتظر ونرى.
كلام «جارفيس» يثير العديد من علامات التعجب على مستويات أخرى، أبرزها الأساس الذى بنت عليه بعثة الصندوق توقعها الخاطئ للارتفاع المتوقع فى سعر الدولار أمام الجنيه، فقد فاق الارتفاع -بعد التعويم- توقعات البعثة، وهذا الكلام يحمل تشكيكاً فى نوع المعلومات التى تم بناء هذا التوقع عليها. التجربة والدراسات التى أجريت حول طريقة عمل «صندوق النقد الدولى» تؤكد أن بعثاته تحرص كل الحرص على جمع معلومات وتقديم تبريرات لمنح القروض للدول التى تعمل فيها، وأعضاؤها يحرصون كل الحرص على استقبال كل ما هو إيجابى وداعم لفكرة المنح، وأغلب المسئولين فى دول العالم الثالث، لا يتعاملون مع المعلومات بمنطق يعتمد على التدقيق والتأكد، لأنهم تعودوا على بيع الأوهام لشعوبهم أكثر من بيع الحقائق، وينسجم أعضاء بعثات المؤسسات الدولية المقرضة مع هذا النمط من المعلومات الوهمية كل الانسجام، لأنها توفر عليهم وقتاً وجهداً محسوساً فى أداء مهمتهم. الكلام الذى جاء على لسان «جارفيس» يدينه، ويلفت الانتباه إلى أنه وأفراد البعثة لم يؤدوا مهمتهم بالدرجة المطلوبة من الدقة، فحديثه عن الارتفاع غير المتوقع فى سعر الدولار، بعد تعويم الجنيه، يأتى فى سياق «الاستعباط»، لأن أى مواطن مصرى، يعيش فوق أرض هذا البلد، كان يعلم أن التعويم سيؤدى إلى رفع سعر الدولار بصورة غير مسبوقة، فى ظل ما نعلمه جميعاً عن توقف العديد من المصادر التقليدية لضخ العملة الصعبة إلى مصر.
النكتة فى كلام «جارفيس» تظهر فى حديثه عن «معاناة الفقراء»، ليتشابه أمره مع من يقتل القتيل، ثم يسير فى جنازته، وهو كلام يدينه أيضاً، لأن أعضاء البعثة صدعونا -هم والحكومة- بسيل من الكلمات المعسولة حول شبكة الحماية الاجتماعية التى ستظلل الفقراء بسحابة رحمتها، كى لا يتأثروا بالإجراءات الاقتصادية الصعبة التى اشترطها صندوق النقد على مصر وقبلت بها الحكومة، والتجربة تقول إن الجهود المبذولة فى هذا السياق ضعيفة وغير مؤثرة فى التخفيف عن الفقراء والبسطاء من أبناء هذا الوطن. عجبٌ لأناس يرفعون شعار: «ذبحناهم.. ثم اكتشفنا إننا غلطانين»!