دمشق.. العطش والظلام والغلاء والإرهاب فى مدينة «الياسمين»
دمشق فى انتظار المياه والكهرباء
مثل امرأة جميلة لكن منهكة، تبدو دمشق بجمال شاحب توارى تحت وطأة 6 سنوات من الحرب القاسية، ربما لم تطل الحرب المدمرة كل أحياء العاصمة، لكنها صبغت وجهها بلون باهت، تعبت مدينة الياسمين وزاد الأنين تحت نيران القصف المتقطع على الأحياء والمبانى. هى روح الشام التى لا تزال تسرى فى جنبات المدينة التاريخية، وتحفظها من الزوال رغم العطش والظلام والإرهاب والغلاء.
كان الطريق الواصل من المطار إلى قلب دمشق مظلماً فى معظم أجزائه.. «الحرب دمرت الكثير من البنية التحتية وأثرت بشكل كبير على مصادر الطاقة»، قالها «وسام»، مرافقى الحكومى، وأضاف: «الناس اعتادوا على الحياة تحت أزيز مولدات الكهرباء نظراً للأزمة، صحيح الحكومة تبذل جهوداً جبارة لكن المعاناة مستمرة، والحرب علينا اقتصادية فى المقام الأول»، كان سكان دمشق -6 ملايين نسمة تقريباً- فى تلك الأثناء يعانون من انقطاعات فى الكهرباء فى معظم الأحياء، فضلاً عن انقطاع كامل للمياه، بعدما ضرب المسلحون محطة المياه المغذية للعاصمة دمشق، وهكذا باتت «دمشق»، التى تعنى فى اللغة «المدينة المروية» لكثرة موارد المياه بها، مدينة عطشى بعدما سيطر مسلحون على محطة المياه الرئيسية بمنطقة وادى بردى على بعد 30 كيلومتراً شمال العاصمة، وقطعوا المياه منذ نحو شهرين، ورغم المفاوضات التى جرت بين الحكومة والمسلحين بوساطة محلية، فإن المياه لم تعد إلى مجاريها، وأسفرت الوساطة الشعبية عن تسليم 500 مسلح لأسلحتهم، وباقى العناصر من المفترض أن تخرج إلى «إدلب»، على أن تدخل فرق الصيانة الحكومية لإصلاح محطة المياه، حسب اتفاق محلى قاده وسطاء شعبيون على مراحل عدة لكنه تكسر أكثر من مرة بسبب خلافات بين الطرفين. «منع الإرهابيون عنا المياه، أى حرب تلك وأى مواثيق دولية توافق على حرمان ملايين المدنيين العزل من المياه؟» قالها «وسام» منفعلاً.
إجراءات أمنية مشددة فى العاصمة.. وحواجز وأكمنة فى الشوارع وأمام المنشآت الحيوية
فى شارع «الشعلانى»، بحى المحافظة الراقى وسط دمشق، كان المشهد غريباً؛ سيارات فارهة ينزل أصحابها حاملين الجراكن، بحثاً عن قطرة مياه.. «انقطاع المياه أصعب الأزمات التى تواجهنا فى دمشق، مررنا بقصف وبتفجيرات لكنها لم تكن مثل أزمة انقطاع المياه». قالها «مصطفى» الشاب العشرينى، ودخل أحد المحال يبحث عن مياه معدنية ولم يجد أيضاً.
فى إحدى الحارات الصغيرة بمنطقة «باب توما» وقفت سيارة حكومة توزع المياه على السكان وسط تدافع كبير واشتباكات ومشاجرات بين الأهالى. «اضطررت للاستحمام فى مكتبى، منزلنا لم تدخله المياه منذ أسبوع»، قالها مسئول رفيع المستوى، مضيفاً: «أرسلت لنا سيارة مياه أمس من وزارة الموارد المائية، لكن أسرتى تعيش بلا مياه، هنا الأزمة طالت الجميع ولم تستثن أحداً سواء كان مسئولاً أو مواطناً، كلنا فى المعاناة شركاء».
الإجراءات الأمنية هى الملمح البارز فى دمشق، فعلى رأس كل شارع حاجز، وفى كل ميدان كمين. يعلق مرافقى قائلاً: «فى بداية الحرب وقعت عدة انفجارات فى المدينة لذا فإننا جميعاً نثمن قيمة الأمن ودور رجال الجيش».
وعلى عكس الصورة الذهنية التى صاحبتنى قبل دخول دمشق، فقد وجدت شوارعها واسعة نظيفة، سيارات فارهة، مبانى بيضاء بعضها مبنى بالحجارة والبعض الآخر مبنى على أحدث الطرازات المعمارية، تلك هى العاصمة السورية، التى كنت أحمل تصوراً أننى سأرى فيها حرباً مع الإرهاب والمعارضة وأجهزة مخابرات من دول شتى منذ 6 سنوات، كنت أظن أننى سأخطو فوق الركام، لكننى وجدت مدينة عصرية هادئة، صحيح أنها تحيا تحت التشديدات الأمنية لكنها آمنة إلى حد ما، اعتاد سكان الشام على صوت القصف، لم يعد تزعجهم أصوات الانفجارات التى تقع بين الحين والآخر رغم كل تلك التشديدات الأمنية.
كانت إحدى ليالى الأسبوع الماضى دامية؛ تفجيرات بالمنطقة الأمنية بالعاصمة، وقصف إسرائيلى على مطار «المزة العسكرى»، ورغم ذلك لم تقف الحياة، كانت أماكن السهر ممتلئة عن آخرها. «هذا هو الشعب السورى المحب للحياة»، قالها مهدى دخل الله، وزير الإعلام السورى الأسبق، مضيفاً: «هنا الحياة لم تتوقف، صحيح كلنا نعلم أننا نواجه حرباً شعواء ضد الدولة السورية لكن الحياة تسير والناس تعيش، هذه هى معادلة الشعب السورى الصامد خلف قيادته، لم تكسرنا الحرب».
وزير الإعلام الأسبق: الدولة توصّل المرتبات للموظفين حتى فى المناطق الخاضعة لسيطرة المسلحين
فى البلدة القديمة وقرب المسجد الأموى ذى الزخارف المدهشة، وقف شاب يرتدى ملابس تشبه الزى العسكرى، ممسكاً بيد فتاة بيضاء فارعة الطول على قدر كبير من الجمال فى لحظات رومانسية قليلاً ما تجدها فى مدينة تحارب منذ 6 سنوات، أصبحت الملابس التى تحاكى الزى العسكرى موضة بين الشباب السورى، من الجنسين. على باب الفندق لافتة تمنع الدخول بالملابس العسكرية أو الأسلحة، وأصبحت مهمة حارس الأمن على بوابة الفندق التفرقة بين الملابس الرسمية للجيش العربى السورى والملابس المموهة «الموضة».
طلب سائق التاكسى ضعف قيمة الأجرة التى سجلها العداد، مبرراً ذلك بالظروف الاقتصادية الصعبة، قائلاً: «ارتفعت الأسعار بصورة كبيرة فى سوريا»، وأضاف السائق الخمسينى: «كنا زمان ممكن نعيش بـ5000 ليرة أسبوعين ويمكن 3، الآن لا يكفى هذا المبلغ سوى يومين فقط».
تضاعفت الأسعار بصورة كبيرة بنحو 10 مرات تقريباً، بعد ارتفاع أسعار الدولار من 50 ليرة مقابل الدولار الواحد إلى 500 ليرة. محمد العالم، عامل فى سوبر ماركت عمومى بحارة الشعلان بدمشق، يقول: «الزيادات وصلت فى أحيان كثيرة لأكثر من 17 ضعفاً، لكن المتوسط العام لارتفاع الأسعار كان نحو 13 ضعفاً»، ويضيف الشاب الثلاثينى متحسراً: «كانت الأسرة متوسطة الدخل تعيش فى سوريا حياة كريمة جداً قبل تلك الحرب القذرة، الآن العائلات الميسورة تعانى». صمت لحظات وأضاف: «كلنا نعانى، الوضع أصبح شديد الخطورة، والحرب أفقرتنا»، بلع ريقه بعدما بدا الغضب على وجهه قائلاً: «الحكومة رفعت الرواتب تقريباً بنسبة تصل إلى 30% وهى غير كافية، لأن الأسعار ارتفعت بنسب تتجاوز 1300%، هذه الحرب قاسية»، وأضاف: «لكن تعرف هناك من أصبحوا أكثر غنى، أصبحنا نرى سيارات (بورش) تسير فى شوارع الشام، لم نكن نرى تلك الماركات الفارهة من قبل، أباطرة الحرب مصوا دم الغلابة».
الكهرباء مقطوعة فى معظم الأحياء.. والعطش يسيطر على المدينة بعد انقطاع المياه لشهرين.. وارتفاع جنونى لأسعار السلع يتجاوز 10 أضعاف.. ومواطنون: «الحرب أفقرتنا»
مهدى دخل الله، وزير الإعلام الأسبق والقيادى بحزب البعث الحاكم، يؤكد أنه «رغم كل الصعوبات التى نعانى منها فى ظل تلك الحرب القاسية، فإن الحكومة تعمل جاهدة على توفير كل السلع»، مضيفاً: «المرتبات تصل لجميع موظفى الدولة حتى فى المناطق التى يسيطر عليها المسلحون حتى الرقة التى تسيطر عليها (داعش) مرتبات موظفى الدولة تصل إليهم، صحيح كل منطقة لها طبيعة خاصة، لكن هناك طرقاً دائماً لإيصال المرتبات والحاجات الأساسية، هناك اتفاق غير مكتوب بأن حياة الناس ومستلزمات حياتهم خارج أطر الحرب، وهذا ما تقوم به الدولة، هل تعلم أن الغوطة تنتج ثلث إنتاج المشمش وهى تحت سيطرة ما يسمى تنظيم (جيش الإسلام) ومع ذلك يصل إنتاج المشمش لدمشق ويباع بالأسواق»، وتابع القول: «القطاع الخاص هنا يتحكم فى 76% من الصناعة ويقود نحو 78% من الإنتاج الزراعى، والدولة تسيطر على النفط والمياه والكهرباء وهناك اتجاه حقيقى لمشاركة القطاع الخاص فى تلك المجالات».