الأزهر يتراجع عن دوره فى نشر الوسطية ويرد على منتقديه بمقاضاتهم
«الطيب» فى لقاء سابق مع أعضاء اللجنة الدينية بمجلس النواب
انشغل الأزهر فى السنوات الأخيرة بمطاردة من يتعرضون له بالنقد ويوجهون إليه أقلامهم وأفكارهم، عبر إقامة الدعاوى القضائية ضدهم، لترويعهم وإسكاتهم والتنكيل بهم، فيما تراجع دوره الأساسى، فى نشر الخطاب الوسطى فى مواجهة الأفكار المتطرفة والفتاوى الشاذة التى تروج لها التنظيمات الإرهابية والمتشددة، كما تراجع دوره فى نشر ثقافة الحوار والتقريب، خصوصاً مع الشباب والمثقفين، رغم أهميتها لعملية تجديد الخطاب الدينى، بما يتوافق مع مستجدات العصر.
الأزهر الذى اتخذ من القضاء سيفاً يسلطه على رقاب المختلفين معه فكرياً، ومنتقديه، وضع على رأس إنجازات المشيخة للعام الماضى، تبنى ثقافة الحوار، حتى إنه ذكر مصطلح «الحوار» قرابة 20 مرة فى تقرير الإنجازات، ودارت ما بين حوارات داخلية وخارجية، قال إنها لنشر ثقافة قبول الآخر (المختلف) ونشر التسامح والسلم المجتمعى، بينما فى المقابل وعلى الأرض نجد أن قيادات الأزهر تعانى سيطرة تامة ومطلقة لروح الانتقام من المختلف، وترفض أى اختلاف معها أو خروج عن رؤى وتعاليم المؤسسة، فى ظل حالة السلفية العمياء التى تحكمها فلا ترى حقاً إلا معها ولا صواباً إلا فى وجهتها.
تقرير إنجازات «المشيخة» ذكر «الحوار» 20 مرة.. وعملياً أقامت 5 دعاوى ضد «الوطن» وقاضت ثلاث فضائيات وتسببت فى سجن «بحيرى»
آخر قضايا الأزهر وأزماته كانت مع جريدة «الوطن»، حيث رفعت المشيخة 5 قضايا ضد الكاتب الصحفى محمود مسلم، رئيس تحرير «الوطن»، والكاتب الصحفى أحمد الخطيب، نائب رئيس التحرير، بعد سلسلة مقالات «فساد الأزهر» التى كتبها «الخطيب» وأثارت ردود فعل واسعة، تناول فيها عدداً من المخالفات المالية والإدارية داخل مؤسسات الأزهر، وانتماء عدد من قياداته إلى تنظيمى الإخوان والجهاد، وعلى رأسهم محمد عبدالسلام مدير الشئون القانونية بالمشيخة.
وسبق موقف الأزهر من «الوطن» الكثير من القضايا والصراعات، حيث قاضت المشيخة الباحث إسلام بحيرى، بتهمة التشكيك فى ثوابت الدين، وقاضت قبله المفكر سيد القمنى، واتهمته بتعمد الإساءة إلى مؤسسة الأزهر، وقاضت فضائيات «التحرير، والحياة، والنهار» لعرضها مسلسل «الحسن والحسين»، ومن قبلها قاضت الكاتبة نوال السعداوى، والكاتب الصحفى عادل حمودة رئيس تحرير جريدة الفجر، والزميل الدكتور محمد الباز رئيس مجلس إدارة وتحرير الدستور، بتهم السب والقذف، فضلاً عن الدعاوى التى أقامتها ضد عدد من المواقع الإخبارية بتهمة نشر أخبار كاذبة، وأعلنت المشيخة عن مقاضاة مصطفى راشد، الملقب بمفتى أستراليا، وأستاذ جامعة الأزهر السابق عبدالفتاح إدريس، والدكتور يسرى جعفر، أستاذ العقيدة والفلسفة بتهمة التنوير بعد إيقافه ووقف راتبه بالمخالفة للقانون، والدكتور أحمد كريمة، لنقده المؤسسة من الداخل، ومن قبلهم المفكر يوسف زيدان، حتى إن بعض الأزهريين أخرجوه من ملة الإسلام، وخاض عدد منهم عدة معارك مع الدكتور جابر عصفور، وزير الثقافة الأسبق، بعد وصفه مناهج الأزهر بأنها تخرج إرهابيين، ومطالبته بمراجعة أحاديث الجهاد التراثية التى يستند إليها الفكر الداعشى والإرهابى فى تنفيذ جرائمه تبنيها.
تاريخ طويل من الصراع والمعارك بين الأزهر والمفكرين والمثقفين، حتى إن الإمام محمد عبده، نفسه لم يسلم من سهامه، حيث هاجمه عدد من أعضاء هيئة كبار العلماء وقتها، ثم الشيخ على عبدالرازق، وهاجمت قيادات أزهرية كتاب «فى الشعر الجاهلى» للدكتور طه حسين، ثم دخلت فى معركة جديدة مع الأديب نجيب محفوظ، بسبب رواية «أولاد حارتنا»، وأفتى الشيخ محمد الغزالى، أحد أعلام الأزهر بعد مناظرة مع المُفكر فرج فودة، على هامش معرض القاهرة الدولى للكتاب عام 1992، بكفره ما أدى لاغتياله عقب فتواه تلك، وفى أثناء محاكمة القاتل أفتى الغزالى بجواز أن «يقيم أفراد الأمة الحدود عند تعطيلها.. وإن كان هذا افتئاتاً على حق السلطة، ولكن ليس عليه عقوبة»، بمعنى أنه لا يجوز الحكم بقتل من قتل «فودة»، لأنه أدى الفريضة!
وخاض الأزهريون حرباً شعواء مع الدكتور نصر حامد أبوزيد، أستاذ اللغة العربية فى كلية الآداب جامعة القاهرة، بسبب بحث له بعنوانه «نقد الخطاب الدينى»، قدمه للحصول على درجة الأستاذية، فتم تكفيره وصدر حكم شهير بالتفريق بينه وزوجته، ورغم كل هذا الكم من القضايا المقامة ضد الكُتاب والمفكرين والمثقفين والمستنيرين من الأزهريين أنفسهم، ينكر الأزهر أنه يستخدم القضاء كأداة بديلة لسلطة العقاب الكهنوتية المفتقدة.
من جانبه، قال الدكتور جابر عصفور، وزير الثقافة الأسبق لـ«الوطن»، إن الأزهر يخالف نص المادة 67 من الدستور، التى تنص على أنه «لا توقع عقوبة سالبة للحرية فى الجرائم التى ترتكب بسبب علانية المنتج الفن أو الأدبى أو الفكرى» فلا مساس بالحريات فى قضايا التفكير والإبداع، والدستور صريح جداً فى رفضه لجوء أى مؤسسة لمحاولة تجريم المفكرين أو المبدعين، والزج بهم فى السجن، أو معاقبتهم على فكرهم، وهو ما ينطبق على الصحافة.
وأضاف «عصفور»: «مشكلة الأزهر أنه يريد أن يكون مؤسسة سلطوية، مع أن كثيراً من شيوخه يعلمون أنه لا سلطة كهنوتية فى الإسلام، وعندما يمارس هذا الحق فإنه يخالف التفسير الرحب للشريعة الإسلامية الذى قدمه محمد عبده وغيره، ويناقض صراحة موقف شيخه الذى يعلن دوماً أنه لا سلطة دينية فى الإسلام».
وتابع: «الأزهر يخون الدستور وينتهك مواده، لأنه يحجر على حرية الآراء المنصوص عليها، وحديثه عن علوه وفقاً للدستور غير صحيح، وللأسف الأزهر يمر بمرحلة صعبة ومرتبكة تختلط فيها الأشياء والأمور، فالأزهر شأنه شأن كثير من مؤسسات الدولة، وعلى المشيخة أن تُصعد المستنيرين، وأن تنأى بنفسها عن التصدى للحريات والاجتهاد، فحق النقد مقدس، وعلى الأزهر أن يحترم الرأى، فهو منارة الاستنارة الإسلامية، والاجتهادات مطلوبة».
من جانبه، أعلن عبدالغنى هندى، عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، تضامنه مع حرية الرأى، مستنكراً ضيق صدر قيادات المؤسسة الأزهرية، قائلاً لـ«الوطن»: «يجب احترام النقد، والدعاوى القضائية لحبس المفكرين والكتاب لا يجب أن تصدر عن مؤسسة دورها تنمية الوعى لدى الناس، وأذكر قيادات المشيخة بموقف شيخ الأزهر الأسبق الشيخ مصطفى المراغى عندما كتب عميد الأدب العربى طه حسين كتاب (فى الشعر الجاهلى)، فرد عليه كثير من شيوخ الأزهر وأهانوه، فما كان من الإمام الأكبر وقتها إلا أن طلب من طه حسين أن يكتب فى مجلة الأزهر، وقال له فى رسالته التى حملها رئيس تحرير المجلة إن الأزهر يستفيد ممن ينتقدونه». وأعلن النائب محمد فؤاد، المتحدث باسم حزب الوفد وهيئته البرلمانية، تضامنه مع «الوطن»، فى قضايا الأزهر المقامة ضدها، قائلاً: «لا يوجد شخص منزه عن النقد، ولدينا مثال واضح وهو رئيس الجمهورية الذى يحترم النقد والآراء المختلفة، وصدره يتسع للجميع، رغم أن هناك مَن ينتقدونه ليل نهار، ومع ذلك لم يقِم دعوى واحدة ضدهم، فانتقاد المؤسسات إذا لم يتطرق لخصوصيات أو يخرج عن حدود القواعد المتعارف عليها، لا ضير منه، والأزهر منارة الدين والتنوير على مر العصور، إلا أن انتقاد الهيكل الإدارى أو طريقة تسيير الأمور داخل المؤسسة ذاتها لا ينتقص من دوره، وإنما يحسن رسالته، خصوصاً إذا كان للنقد حيثياته».