تجربتان سابقتان ناجحتان لناجيين من جحيم الإخوان توليا فيها مسئولية وزارة الأوقاف، وسجلا لنفسيهما تاريخاً مجيداً وتركا لليوم بصمات مهمة لا تمحى ولا نعرف سبباً لعدم تكرار التجربة لمرة ثالثة، والمثل يقول «ليس هناك اثنتان بغير ثالثة»!
الأول هو الشيخ أحمد حسن الباقورى.. ثالث ثلاثة رفضوا منطق الإخوان فى الخلاف الكبير مع الثورة، والذى تحول إلى صراع مرير دفعت فيه الجماعة الثمن غالياً وكانت تستحق!
رفض «الباقورى» الاستقالة من الوزارة، ووافق فوراً على الاستقالة من مكتب الإرشاد ومن كل تشكيلات الإخوان ورد على «الهضيبى» مرشد الإخوان بقوله إنه تعلم من الإسلام أن «الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن»، وأنه قبِل المنصب ليخدم الإسلام والمسلمين وأنه لا يسعى لمنصب أو سلطان، ثم ذكّر المرشد بموقفه عندما رفض منصب شيخ الجامع الأزهر ورأى أن الشيخ محمد الخضر حسين أحق منه به، وبالتالى فلم يكن يوماً ساعياً لمنصب أو سلطة!
وكان الشيخ الجليل يرى أنك «ما دمت لا تقول شيئاً يناقض كتاب اللـه وسنة رسوله فليس لك أن تفرض التشدد لتحتاط، لأن الاحتياط يوقعك فى الحرج، ولأن يتدين الناس بتتبع الرخص خير من أن يشقوا على أنفسهم وعلى الناس فينصرفوا عن التدين جملة»، وهو منهج يقدم الإسلام بشكله المستنير المتحضر الذى يغيب عنه الآن بفعل فاعل.. ولم يكن فقط مستنيراً فى ما يمكن تسميته بفقه «التيسير»، وإنما كان يمتلك الرؤية المستنيرة أيضاً فى التقريب بين المذاهب وقد قال فيه «فما تفرق المسلمون فى الماضى إلاّ لهذه العزلة العقلية التى قطعت أواصر الصلات بينهم، فساء ظن بعضهم ببعض وليس هناك من سبيل للتعرف على الحق فى هذه القضية إلاّ سبيل الاطلاع والكشف عما عند الفرق المختلفة من مذاهب وما تدين من آراء ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيى عن بينة، والخلاف بين السنّيين والشيعيين خلاف يقوم أكثره على غير علم حيث لم يتح لجمهور الفريقين إطلاع كل فريق على ما عند الفريق الآخر من آراء وحجج وإذاعة فقه الشيعة بين جمهور السنيين وإذاعة فقه السنيين بين جمهور الشيعة من أقوى الأسباب وأكدها لإزالة الخلاف بينهما، فإن كان ثمة خلاف فإنه يقوم بعد هذا على رأى له احترامه وقيمته»!
ولذلك لم يكن فى وقته أى خلافات بين السنة والشيعة مما نراه اليوم ولم يكن للأمة إلا عدو واحد ووحيد، وهو العدو الإسرائيلى الذى تقف أجهزته وراء الفتنة فى بلاد العرب والمسلمين!
أما الدكتور عبدالعزيز كامل فقد تولى أيضاً وزارة الأوقاف ومعها شئون الأزهر، وقد أدى فيهما أداء حسناً.. كان الرجل هادئاً بسيطاً.. تحوى التسجيلات الآن الموجودة على موقع اليوتيوب تسجيلاً صوتياً لأحد البرامج الإذاعية تستضيفه سيدة الغناء العربى أم كلثوم فى حوار عن السيدة خديجة رضى الله عنها ومنه نعرف كم كان عالماً جليلاً وكم كان رقيقاً مستنيراً!
الدكتور عبدالعزيز كامل هو صاحب كتاب «الإسلام والعنصرية» الشهير والمترجم لكل لغات العالم وهو أيضاً مؤلف كتاب «الإسلام والمستقبل»، وأيضاً «الإنسان والقرآن» ونال تكريماً واسعاً من كل أنحاء العالم منها «وشاح الملك عبدالعزيز»، ولم يجد غضاضة أن يمنح وسام «الصليب الذهبى» أعلى الأوسمة الإسبانية، وهو من قام بتجديد مقابر عظماء مصر، وهو من أسس نادياً خاصاً لأئمة المساجد وعلماء المسلمين.
كل من الشيخ «الباقورى» والدكتور «كامل» كانا فى جماعة الإخوان بل كانا فى مكتب الإرشاد، وكلاهما دخل السجن؛ «الباقورى» قبل الثورة و«كامل» بعدها، وكلاهما تولى العديد من المواقع والمناصب فى عهد الثورة، حيث عاد «الباقورى» رئيساً لجامعة الأزهر بعد تركه الوزارة، ولكنهما استطاعا معاً مواجهة التطرف والأفكار الخارجة عن الإسلام وفى عهدهما اختفى الإرهاب بل واختفى الإخوان.
يكون واهماً من يعتقد أن التصدى للإخوان فى عهد عبدالناصر كان أمنياً فقط.. فبخلاف القبضة الأمنية القوية كانت الإجراءات الاجتماعية الكبيرة التى غيرت وجه مصر، فنال الفقراء ما لم يحلموا به فتعلموا وعولجوا مجاناً وذهبوا للبعثات الخارجية بالكفاءة المطلقة، ووجدوا الوظائف فى انتظارهم فلم يكن هناك سبيل للتطرف، ولكن كان إلى جوار كل ذلك عملية واسعة للارتقاء بوعى المصريين وتهذيب سلوكهم، فكما تأسس المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بإصداراته المستنيرة، تأسست أيضاً مدينة البعوث الإسلامية وتطور الأزهر ليواكب بمناهجه العلوم العصرية وانطلقت إذاعة القرآن الكريم فأغلق الطريق تماماً لأى أفكار واردة أو متطرفة!
واليوم ونحن نعيش حالة شبيهة بسنوات الخمسينات الأولى، نرى أن الدواء ممن خبر الداء وجربه.. ممن مرض به وشفى منه.. وأن أهم وأبرز ظاهرة فى التوبة عن الإخوان ثم مواجهتهم والتصدى لهم هى من نصيب الدكتور ثروت الخرباوى، وهو بعلمه وتاريخه لا يقل عن سابقيه، وهو قادر بشجاعته على فتح ملفات عديدة ربما يصل بأداء وزارة الأوقاف إلى آفاق بعيدة لنكسب مفكراً جليلاً فى وزارة نحتاج منها الكثير والكثير!
أحمد أبوعقرب
منذ رحيل النائب السابق أحمد أبوعقرب والحزن لم يفارق مدينة أبوتيج التى كان نائباً عنها.. أحمد أبوعقرب كان نائباً عن الحزب الوطنى ولم يترشح فى الدورة الأخيرة ولكن معادن الناس نكتشفها فى لحظات الحقيقة.. وليس هناك حقيقة أقوى من الموت.. ولقد كشفت فجيعة الناس فى رحيله حقيقة ما كان يجرى من خلافات سياسية أو قبلية أو عائلية.. حيث اكتشف الجميع أن كل ذلك لا قيمة له بجانب الارتباط الإنسانى.. حتى نجد أن الحزن لا يفارق حتى منافسيه.. والكل وبالإجماع تقريباً يقرون ويعترفون بمدى حبهم للرجل ومدى تأثرهم بفقده ومقدار ما كان يمثله من قدرة على العطاء وخدمة الناس.. رحم الله أحمد سعد أبوعقرب.. الذى ترك منصب اللواء فى الشرطة المصرية من أجل استرداد مقعد والده النائب الراحل الذى غاب عنهم طويلاً.. ونجح.. وصار شبه والده شكلاً ومضموناً.. هى نفسها الطيبة والتلقائية.. رحم الله النائب الراحل، وخالص التعازى فى ذكرى الأربعين لرحيله لأسرته وأهله وأولاده وأشقائه ولعائلة أبوعقرب ولكل أهالى أبوتيج.. وكل الدعوات لهم جميعاً بالصبر، وللفقيد بالرحمة والمغفرة!