كما أن أفضل مهندس معمارى فى العالم لا يصلح بالضرورة أن يكون مديراً لشركة مقاولات، وأفضل مدرس فى مصر قد لا يصلح مديراً لمدرسة، وبالتالى فإن أحسن عميد لأفضل كلية زراعة قد يفشل فى إدارة وزارة الزراعة.
الدولة المصرية لها تاريخ فى باب التجريب الزراعى، ومنذ وضع محمد على باشا منظومة الزراعة والرى، لم تتقدم مصر فى الإنتاج بما يتوازى مع إمكاناتها من الموارد الطبيعية والبشرية، رغم تحقيقها طفرة فى مجال البحوث، ورغم إسناد ملفها منذ إنشاء وزارة منفصلة لها فى 20 نوفمبر عام 1913 إلى كوادر وطنية مصرية، بدأت بمحمد محب باشا، ومرت بسيد مرعى، وإبراهيم شكرى، ومصطفى الجبلى، وصولاً إلى محطة يوسف والى عام 1982، الذى جاء خلفاً للدكتور محمود داود.
ولأن الزراعة المصرية بدأت كنظارة عام 1875 وكانت تتبع رئاسة مجلس الوزراء، اتضح بعد بلوغ عمر الرشد فى بداية الثمانينات، أن يوسف والى كان قد استوحى مفهوم النظارة تاريخياً، منذ عهد رياض باشا، رئيس وزراء مصر عام 1875، بالنظارة إلى الفرنسى «دى بللينو»، فكان «والى» يفاجئ الفلاح على رأس غيطه، والمرشد الزراعى داخل مخازن الجمعيات، كما لم يكن يعرف ضرورة لموكب الوزير، أو سيارة الوزير، ولا حتى بدلات سفر الوزير أو الراتب، أو الجواز الدبلوماسى.
كرّم الرئيس «عبدالناصر» يوسف والى بجائزة الدولة عام 1968 كباحث وعالم مرموق، قبل أن يظهر نجمه كسياسى، ثم كرمه الرئيس «السادات» عام 1975 بعد أن ذاع صيته وأينعت أبحاثه فى مجال البساتين فى كلية الزراعة - جامعة عين شمس، ثم رشحه الدكتور محمود داود لحمل أكثر ملفات الزراعة المصرية ثقلاً، قبل أن يتم تكليفه وزيراً فى 3 يناير 1982.
بدأ يوسف والى مسئولياته الفنية بمشروع ميكنة الأرز، زراعة وحصاداً، وطوال رحلة عطاء أودع خلالها مكتبة الزراعة المصرية حزمة تشريعات تُنسب إليها حتى الآن كل القرارات التى أصدرها 11 وزيراً من بعده، وليزرع خلال مسيرته مليونى فدان فى صحراء مصر، قبل أن يُطفئ شعلته مخطط دنىء، نفذته عصابة شيطانية، عقاباً له على عدم تزكية توريث عرش مصر إلى جمال مبارك.
ما تحتاجه مصر حالياً لإقالة عثرات الزراعة المصرية، واستثمار الطفرة الحادثة محلياً وعالمياً فى مجال البحوث واستنباط الأصناف الأكثر إنتاجية، وزير من فصيل يوسف والى، يختصر: شجاعة سيد مرعى، وفكر إبراهيم شكرى، وجسارة مصطفى الجبلى، ونبل محمود داود، وعلاقات عادل البلتاجى، وذكاء أيمن فريد أبوحديد، وخبرة محمد رضا إسماعيل، وتواضع صلاح يوسف، ورزانة صلاح عبدالمؤمن.
هذه الصفات مجتمعة، أو معظمها، تتوافر فى مصريين كثيرين، امتلكوا مهارات القيادة، واكتسبوا خبرات السياسة، وتعلموا فصولاً جيدة فى باب الإدارة، وتنهض قاماتهم فوق أسس علمية رصينة، ومنهم من تم تجريبه فى العمل التنفيذى داخل وزارة الزراعة، ومعاهد مركز البحوث التابع لها، وخلال تاريخهم البحثى والمهنى والفنى حصلوا على دورات فى مجالات الإدارة، وتعلموا فى ورش القيادات فنون السياسة، بما يملأهم قيماً، وما يكسبهم هيبة تعيد للزراعة المصرية هيبتها، لتكون فعلاً المصدر الأقوى لتمويل الخزانة العامة للدولة.
وزارة الزراعة المصرية تعرضت لحملات تشويه ضارية، هدفها تقويض فرص إنتاج الغذاء من المصادر الزراعية المتنوعة (إنتاج نباتى، حيوانى، سمكى)، وإقامة صناعات عليها، أو مرتبطة بها.
الاقتصاديات الحقيقية فى العالم تنهض على أسس الإنتاج، وتأتى التجارة مكملة للتسويق التبادلى لأرياع الوحدات الإنتاجية، وليس هناك إنتاج حقيقى سوى ما يعتمد على الأرض، من زراعة وتعدين، ومصر لديها من فرص الإنتاج والتصنيع الزراعى والتعدينى ما يثريها، إذا توافرت الإرادة السياسية القادرة على صنع إدارة جادة بتشريعات ذات مرونة حاكمة.
- مصر لديها نحو 9 ملايين فدان منزرعة، ونحو 6 ملايين فدان أخرى تتوافر لها مقومات الزراعة، ونحو 77 مليار متر مكعب من المياه، ولديها فجوة غذائية تتجاوز 60٪ من إجمالى استهلاك الغذاء، وأكثر من 95% فى بعضها، مثل زيوت الطعام، وإسرائيل لا يتوافر لها سوى أقل من 1.2 مليون فدان، منها 400 ألف فدان داخل الأراضى المحتلة، وما لا يزيد على 4 مليارات متر مكعب مياه، وتزيد صادراتها من الإنتاج الزراعى (خضراوات وفواكه وزهور وبذور وأنسجة)، على الدخل القومى الإجمالى من الزراعة المصرية.
- مصر فى حاجة إلى وزير يعيد إليها منظومة زراعة القطن، ويحقق التوازن بين زراعة البقوليات والخضراوات والمحاصيل الاستراتيجية، والزيتية والسكرية، لإعادة إنتاج الذرة الصفراء، والفول البلدى، والصويا، والعدس، والسمسم، وعباد الشمس، بما يعيد إحياء مشروع البتلو لسد فجوة اللحوم الحمراء، وتوفير أعلاف الثروة الداجنة، وهى معادلة تحقق الستر والرغد للفلاح والمربى، والرأفة بالمستهلك، والإنعاش للخزانة العامة للدولة.
- مصر فى حاجة إلى وزير زراعة لديه من القوة والنظافة، تسبقه أفعاله إلى لجان البرلمان، حتى لا يكون مضطراً لتحويل مكتبه إلى خيمة لاستقبال مندوبى الشعب.
- مصر فى حاجة إلى ترفع دستورى كى تعطى «الخبز لخبازه»، وتمنح الصلاحيات الكاملة للخباز، وفق منظومة تراقب عن بعد، وليس كما هو الحال، الرقيب والعتيد عن اليمين وعن الشمال، فلا اليمين قادرة على اتخاذ القرار، ولا الشمال قادرة على تثبيت أوراق الملفات الأكثر أهمية، والقضايا ذات الأولوية.
وأخيراً، مصر فى حاجة إلى العدالة الانتقالية الحقيقية البسيطة، ومنها: إعادة الاعتبار لكل من أنجز، وإزالة الغبار عن ملفات عظيمة لعظماء أشراف، واللجوء إليهم دون خوف من أبواق إعلامية متآمرة أو جاهلة، وعلى رأس هؤلاء الشرفاء الكبار: الأستاذ الدكتور يوسف والى «راهب الزراعة المصرية».