ليس بمقدور الإنسان -أى إنسان- أن يحقق شيئاً فى الحياة دون ظروف تهيئ له التحقيق، ومن غير أطراف تعينه على تحقيق ما كان يحلم به، أو ساقته الأقدار إليه. وطريق الخسارة يبدأ دائماً فى اللحظة التى يشعر فيها الفرد أنه صنع كل شىء بيديه، وأنه حقق ما حقق بذكائه وشطارته، وبراعته ومهارته، وأنه فى كل الأحوال، وبغض النظر عن الظروف كان سيحقق ما يحقق، لأن أحلامه تتراقص دائماً عند أطراف أصابعه. إنها لحظة «الوقوع فى المحظور» التى يعقبها «السقوط». ولا أجد تلخيصاً لهذه الفكرة أشد عبقرية من الآية الكريمة التى تقول: «إنما أوتيته على علم عندى».
هذه الآية الكريمة حملت رد «قارون» كبير أثرياء «قوم موسى» على قومه، عندما بغى على أهله وناسه، معتمداً على ما آتاه الله من ثروة، وما يسر له من أدوات القوة، فأصيب بالكبر والغرور، وقفز على كل الأسباب التى أدت إلى ثرائه، ووصوله إلى موقع القمة بين قومه، وعندما استوقفه بعض العقلاء وحذروه من مغبة الطريق الذى يسير فيه، انتفخت أوداجه ولوى عنقه قائلاً: «إنما أوتيته على علم عندى». لقد أغفل الظروف والسياقات والأسباب التى مكنته، وفكر فى نفسه فقط، ونظر حوله فلم يبصر شيئاً ولا أحداً، فأصابه الكبر، فكانت النتيجة أن خسر كل شىء. إنه قانون لا يتأخر وسُنة لا تتعطل من سنن المولى عز وجل فى الحياة.
أجد أن الكثيرين فى أشد الحاجة إلى استيعاب هذا الدرس، خصوصاً أن من حولنا نماذج بشرية نعلم جميعاً ما انتهوا إليه، عندما وصلوا إلى هذه المحطة المهلكة، محطة «إنما أوتيته على علم عندى»، لأن الله تعالى علمنا أن مَن يعاين آية من آيات الله ثم يعبر عليها أو يعرض عنها فإن العقاب يلاحقه فى الدنيا والآخرة، يقول الله تعالى: «وكأين من آية فى السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون». النماذج التى يمكن أن تستدل بها على هذه المعانى، تستطيع أن تظفر بها لو أنعشت ذاكرتك قليلاً، وسوف تجد أنك تستدعى أسماء لسياسيين ورجال أعمال ونجوم كانوا يتبخترون من حولنا، وظلوا على عهدهم بالناس وعهد الناس بهم إلى أن وصلوا إلى المحطة المهلكة، ونسوا الظروف التى أنتجتهم، والأيادى التى مكنتهم، فكان السقوط المدوى.
العاقل مَن تدبَّر قبل أن يقول، وتحسب قبل أن يخطط، وفكر قبل أن يقدم، ولم يستسلم لفكرة «الاستغراق فى الحياة». يحكى أن أحد رجال الأعمال الناجحين، فى بلاد العم سام، كان لديه عادة غريبة للغاية، فعندما كان يجن الليل كان يأوى إلى أى مقلب قمامة، ويظل يعبث فيه، وعندما علم أحد الصحفيين بالأمر، باغته وقام بتصويره، ثم واجهه بالصورة وسأله لماذا يفعل ذلك؟ فرد عليه قائلاً: لقد عشت سنين طويلة قبل الثراء أطعم من القمامة وأنام إلى جوارها، حتى أدمنت رائحتها، على ما فيها من نفور. رجل الأعمال هذا ظل ناجحاً، وليس لمثله أن يفشل لأنه لم ينسَ أصله!.