فى المقال السابق، بعنوان «الصحيفة الناجية»، تحدثنا عن تجربة جريدة «داينيك بهاسكار» اليومية الهندية، التى استطاعت أن تسير عكس الاتجاه العالمى لتراجع مبيعات الصحف المطبوعة، التى انخفض توزيعها إلى النصف (1 مليون نسخة) فى العام 2011، ثم انتعشت وبلغ حجم مبيعاتها 3.6 مليون نسخة فى 2016.
بعد نشر المقال استشرفت عدداً من التعليقات المشجعة من زملاء، وأصدقاء، ومهتمين، أثنى جزء منهم على تجربة الصحيفة الهندية، فيما رأى فريق آخر أنها غير مناسبة لمصر، سؤال مهم برز من بين تلك النقاشات، وهو: هل تنجح هذه التجربة فى مصر؟ يمكن تلخيص سر نجاح «داينيك بهاسكار»، وفقاً لما ذكره مسئولوها، فى نقطتين رئيسيتين:
النقطة الأولى: تبنى سياسة تحريرية مختلفة، تستند بشكل كبير على معايير «الصحافة البناءة»، وهو اتجاه حديث فى صناعة المحتوى، تزايد الاهتمام به فى الغرب مؤخراً. والثانية: القناعة بأن القارئ يجب أن يكون محور اهتمام الجريدة، فهو سر وجودها، ويقع فى القلب من ذلك الاعتناء بالصحافة المحلية.
سنركز فى الحديث هنا على «الصحافة البناءة» غير المشهورة فى منطقتنا العربية، وإن كان هناك بعض القصص والملفات المتفرقة -كالتى ظهرت من حين لآخر فى صفحات «الوطن» وموقعها- كُتبت بروح قريبة للغاية من هذا الاتجاه الجديد، وسنمر سريعاً على «الصحافة المحلية» التى حظيت بنصيب وافر من الكتابات والتجارب.
الصحافة البناءة
فى قاعة بأحد فنادق تونس (العاصمة)، نوفمبر الماضى، التقى 19 مراسلاً من مصر، وتونس، وليبيا، فى أول ورشة تدريب عن «الصحافة الإيجابية» بمنطقتنا، نظمته مؤسسة MiCT الألمانية، كان المصطلح جديداً بالنسبة لنا جميعاً.
وكطبيعة بشرية كان هناك رفض وتوجس مما هو جديد، فخشى البعض أن يكون المصطلح صياغة تجميلية لصحافة «الدعاية والنفاق»، لكن الصحفية والمدربة البريطانية فيرونيكا مستيان، أوضحت أن «الصحافة البناءة» تقدم الإنسان كقادر على الفعل والنجاح، وليس كضحية، عرضت علينا صورة لطفل أصيب فى معارك مسلحة ببلده، قدماه الاثنتان مجبرتان، ملقى على ظهره فى فراشه، لكنه يبتسم، ويمارس تمارين رياضية بذراعيه، فى مرح. وصورة أخرى لامرأة سمراء فقيرة، تسير فى شموخ، بجوار أطلال خلفها زلزال مدمر.
هذا جانب مهم غالباً ما لا نراه فى تغطيات الحروب والكوارث، التى تقوم بها وسائل إعلام تقول إنها تقدم الحقيقة كاملة. نحن نرى الضحايا، والمصابين فقط، وكأن العالم قد انتهى عند هذه النقطة، وهذه ليست الحقيقة الكاملة، قس على ذلك الكثير من التغطيات الإعلامية فى مجالات ومناسبات مختلفة، «الصحافة البناءة» نشأت مستندة على مفاهيم «علم النفس الإيجابى» الذى أثبتت أبحاثه المعاصرة عمق الأثر السلبى الذى تخلفه القصص الصحفية التقليدية، ليس على نفسية المتلقى فحسب، بل على منتجى الأخبار أنفسهم، بنهاية التدريب كان الزملاء من البلدان الثلاثة يقترحون أفكاراً لتقارير صحفية بناءة ورائعة. مسئولو «داينيك بهاسكار» أدركوا أن بلدهم يقع فى مرتبة متأخرة فى «تقرير السعادة العالمى 2016»، جاءت الهند بالترتيب رقم 118، من بين 157 بلداً، وهو ما يجعل المواطنين يبحثون عن السعادة دائماً، وسط أخبار تسبب الإحباط والضغوط النفسية. تأتى مصر فى الترتيب 120 من ذات التقرير، ولا شك فى أن بلدنا بحاجة لصحافة تقدم الإيجابيات، وتطرح الحلول.
الصحافة المحلية
هذا عنصر مهم للغاية فى نجاح الصحيفة الهندية، فالجمهور المحلى يرى نفسه وبيئته فى الجريدة، وهو ما يربطه بها، ويشعره أنه جزء مهم منها، وعلى الرغم من أن تجارب الصحافة المحلية فى مصر غير ملهمة، إلا أن هناك فرصاً كامنة تكشفها بعض النجاحات المحدودة، وهناك تجارب أسسها صحفيون محليون يمكن أن نعتبرها نجحت نجاحاً كبيراً، لو قارنا بين الإمكانات الزهيدة المتاحة لهم، وبين نسب التوزيع والاشتراكات التى حققوها.
تجربة «داينيك بهاسكار» يمكن أن تنجح فى مصر، لو تم تدريب منتجى الأخبار على الكتابة وفق المعايير البناءة الحديثة، وقُدم المحتوى باستمرار وإلحاح إلى أن يتمكن من نشر الطاقة الإيجابية، والفكر المعتمد على البحث عن حلول «وإشعال شمعة»، بدلاً من التركيز على المشكلات «ولعن الظلام»، وكذلك لو تم إصدار نسخ محلية من الصحف المستقلة والقومية الكبرى، تتبنى ذلك الاتجاه الحديث، ومن المهم أن تعتمد تلك الإصدارات على كوادر محلية فى مجالات التحرير، والتوزيع، والإعلان، يتم تدريبها جيداً. ولا ننكر أن القول بأن هناك فروقاً بين مصر والهند يعتمد على قراءة صحيحة، وفهم عميق للواقع، ولكن من حسن الحظ أن الواقع يمكن تغييره، وهذا ما استطاع الإنسان أن يفعله على مر تاريخه بنجاح كبير.