هل المزعج الوحيد خلال الأسابيع القليلة الماضية هو أن روسيا، بعد أن أنهت فعاليات مؤتمر «أستانا» بين الفرقاء السوريين، قامت فجأة ومن دون سابق إنذار بإخراج ما سمى «دستور سوريا الجديد» وسلمته لوسائل الإعلام بنصوصه الكاملة قبل أن تضعه فى أيدى أطراف اللعبة السورية، حتى يكون الجميع بإزاء شكل متكامل لما سيكون عليه المستقبل السورى برمته تقريباً؟
لكثرة ما تلقى الإقليم من صفعات الدهشة وهو يلاحق فصول المأساة السورية، جاءت الصاعقة هذه المرة صامتة، لاسيما أن فصولها الأخيرة أصبحت مزودة بكواتم للصوت، لكنها لم تخلُ من موجات ارتدادية تشى بما يمور أسفل قشرة الأرض الهشة التى يتصور عديدون أنهم يقفون عليها.
ربما البداية كانت بالقرب من عمان، عاصمة المملكة الأردنية، عندما اجتمع للمرة الأولى وفد عسكرى سورى بصحبة عدد من الخبراء الأمنيين، مع نظرائهم الأردنيين على نفس المستوى من التمثيل. خلال بعض من فصول المأساة التى نتحدث عنها، كان هناك بعض من اللقاءات المماثلة التى جرت للتباحث حول بعض القضايا والمحطات المفصلية، لكنها ظلت فى أغلبها قاصرة على عناصر أجهزة استخبارات كلا الدولتين، هذه المرة كان الطابع الغالب عسكرياً وترأس الوفد السورى ضابط برتبة اللواء، وشهد الاجتماع متغيراً إضافياً كونه تم تحت الرعاية الأمريكية الروسية المزدوجة. الاتصالات بين الجانبين تناولت فى المرحلة الأولى بنداً واحداً ووحيدا هو «تحرير مدينة تدمر» السورية، القريبة من الصحراء الشمالية الأردنية من قبضة تنظيم «داعش»، حيث بدا أن استعادة مدينة تدمر الصحراوية فى البادية الوسطى القريبة من «درعا» هو الهدف المتفق عليه، ويشكل فى حد ذاته نقطة جذب استراتيجية بين عمان ودمشق. فى الوقت ذاته الذى جرت فيه هذه الاتصالات العسكرية الفنية، كانت هناك زيارة «الملك عبدالله الثانى» إلى موسكو حيث التقى الرئيس فلاديمير بوتين وبحث معه -حسب بيانات رسمية للبلدين- ملف مكافحة الإرهاب.
هذا المشهد الأردنى ربما يثير تساؤلات بأكثر مما يسبب إزعاجاً أو يصيب بالدهشة، فما الذى يمكن تصوره فى معادلة الاحتياج السورى لعمان التى كانت لشهور مضت موقعاً لـ«غرفة عمليات» استخباراتية تخدم قوات التحالف المناهضة لسوريا النظام، وهذه المعلومة لدى السوريين منذ تاريخ إنشاء الغرفة غير السرية، ولهذا يمكن تصور أن النظام السورى دُفع لهذا الاجتماع وهذا النوع من التنسيق بتعليمات روسية انصاع لها. وهذا يفتح تساؤلات مصاحبة، تتعلق بالدور الأردنى «المفترض» فى تحرير تدمر وتطهير الصحراء السورية الشرقية من التنظيمات المسلحة، قد يكون منطقياً حينها تصور دفع قوات تابعة للجيش الأردنى لتنفيذ تلك المهمة. فهناك إذن قرار أمريكى وروسى يغطى تلك العملية برمتها. ووفق تلك المعادلة هناك شقان مهمان، هل يحتمل الداخل السورى تدخلاً إضافياً لقوات عسكرية جديدة تتحرك على أرض مثقلة بالسلاح والتعقيدات، فضلاً عن غموض شديد يتعلق بفعلى التحرير والتطهير المشار إليهما، لصالح مَن مِن الأطراف ستتم تلك العملية المحفوفة بالمخاطر؟
أظننا الآن أمام حالة إزعاج حقيقى مكتملة، فالدستور الروسى الذى وصفة وزير الخارجية سيرجى لافروف بأنه ليس «إطلاقاً» مثل دستور «بريمر» للعراق، أول ما ينص عليه هو نزع صفة السيادة المركزية لدمشق عن كامل الأراضى السورية، فرائحة الفيدرالية تفوح من بين سطوره وتكاد تزكم الأنوف بقوة، ناهيك عن نزع الصفة العروبية عن الدولة السورية، مع بعض الامتيازات الكردية المتعلقة باللغة والتعليم تطبق فى إقليمهم الشمالى، ليصير نموذجاً يمكن التفاعل والقياس عليه فى أقاليم مشابهة. على جانب موازٍ جاء التصريح الأمريكى المتعلق بتفهم الإدارة الجديدة لإنشاء «منطقة آمنة» فى هذا الشمال نفسه، الذى يبدو أنه لن يعود للمركز إلا فى أحسن الفروض تحت الصيغة الفيدرالية المنصوص عليها. والتضييق الذى يمارس على إيران منذ ما قبل مؤتمر «أستانا»، هو بغرض تقييد حركتها وجعل مطالبها ومصالحها يمكن تقبلها «فقط» فى منطقة دمشق ومحيطها، والسيف المسلط عليها يتعلق بالميليشيات الشيعية التى تديرها طهران على الأرض السورية منذ الفصول الأولى، فرفع الغطاء الروسى عنها أو مطالبة جماعية بخروج الفصائل يضع حزب الله وغيره فى زاوية ضيقة للغاية. وأيضاً جاء التلخيص الروسى لهذا الوضع على لسان لافروف عندما صرح بأن «التدخل العسكرى الروسى وحده هو الذى أنقذ دمشق من السقوط، من دونه كانت العاصمة على مسافة أسابيع معدودة من مصير مجهول»، ومثلما كان هذا الحديث لإيران فهو أيضاً يخص النظام، ويفسر للمتابعين سبب قبول النظام تجرع تلك الكؤوس المتعاقبة من السم.
فروسيا ومعها أطراف أخرى وجدوا أن تثبيت النظام السورى ربما يحقق للجميع مكاسب أفضل كثيراً مما يمكن أن يحققه حل للأزمة أيًّا كان مسار هذا الحل، فهو فى مقابل تثبيته جاهز بانصياع كامل لتحقيق مآرب كل الأطراف، وسيصل فى انصياعه لمناطق لم تدُر بخلد أكثر الأطراف تباعداً معه، مثل تمرير الدستور بهذا الشكل، فضلاً عن العبور لمربعات الخصوم فى سهولة لافتة؛ فهو اليوم يتم توجيهه إلى الأردن للتنسيق معها، وبالأمس كان يجرى عملاً عسكرياً مشابهاً مع قوات الجيش التركى الموجودة داخل الأرض السورية، على حدود مدينة «الباب»، كى يعزز لأنقرة إمكانية الاستيلاء عليها من قبضة «داعش».
فى النهاية لو أن هناك مسوغاً ما يمكن على أساسه تفهم شكل تحركات النظام السورى وفق الإنهاك الكبير الذى تعرض له، فلا يوجد ما يقابله لتفسير التحرك الأردنى الأخير وأى ضمانات تلقاها تتعلق بوجوده على الأراضى السورية.