حسناً فعلت إدارة «منتدى الإعلام العربى» فى دبى حين جعلت جلسة المنتدى الرئيسية الأولى تحت عنوان «إعلام المراحل الانتقالية: متطلبات التطوير»؛ مرة لأنها اختارت الموضوع الأكثر حيوية وأهمية فى المجال الإعلامى العربى فى الوقت الراهن، ومرة أخرى لأنها تحدثت عن «متطلبات التطوير» فى مقابل دعاوى عديدة تتحدث عن التقييد أو المنع أو الإغلاق والمصادرة.
وقد حرصت إدارة المنتدى، الذى عقد خلال هذا الأسبوع، على أن يكون بين المتحدثين فى تلك الجلسة ثلاثة خبراء من ثلاثة بلدان شهدت تغيرات سياسية جوهرية، وتمر منظوماتها الإعلامية بعمليات تحول حادة؛ وهى مصر وليبيا وتونس.
ويمكن القول إن ثمة قواسم مشتركة فيما جرى فى قطاع الإعلام فى الدول الثلاث التى شهدت انتفاضات شعبية أطاحت بثلاثة أنظمة قمعية فى مطلع عام 2011.
ومن بين تلك القواسم أن الارتفاع الواضح فى سقف «حرية الكلام واختيار الموضوعات والقصص» فى وسائل الإعلام العاملة فى تلك الدول لم يواكبه ارتفاع مماثل فى سقف المهنية، بمعنى أن الإعلاميين فى تلك الدول، بعد زوال الأنظمة القمعية، صاروا أكثر قدرة على توجيه الانتقادات، واختيار الموضوعات التى كان من المحرم الحديث فيها، والضغط على المسئولين، وإخضاعهم للمحاسبة، وفضح التجاوزات والانتهاكات السياسية والجرائم والفساد الاقتصادى بشكل غير مسبوق، لكن التطور فى مستويات الأداء المهنى والالتزام بالمعايير لم يكن على المستوى المطلوب.
من بين تلك القواسم أيضاً أن الإعلاميين فى بلدان «التغيير العربى» يتعرضون للكثير من الضغوط والانتهاكات والاعتداءات المادية والمعنوية، التى تصل إلى القتل والغلق والمصادرة والحصار والترويع والاغتيال المعنوى.
ورغم أن أوضاع حرية الصحافة والإعلام يمكن أن تكون قد تحسنت نسبياً فى ليبيا وتونس، فإنها ساءت بلا شك فى مصر؛ وهو الأمر الذى تشير إليه بوضوح تقارير دولية صادرة عن منظمات معتبرة.
وإلى جانب ذلك، فثمة ما تشترك فيه مصر وليبيا وتونس أيضاً على صعيد تنظيم المجال الإعلامى فى أعقاب إطاحة الأنظمة السابقة؛ إذ لم تنجح الدول الثلاث بعد فى تحرير الإعلام العام المملوك للدولة من قبضة الأنظمة المسيطرة، وهو الأمر الذى يطيح بدوره المفترض فى خدمة المجموع العام فى تلك البلدان من دون أن يُختطف لمصلحة حزب أو فئة سياسية محددة.
لم تنجح الدول الثلاث بعد فى صياغة منظومات تشريعية حداثية متماسكة تحافظ على حرية الإعلام وتصونها وتضمن عدم المساس بها، كما لم تقم بتنقية قوانينها السابقة من القيود والعقوبات المفروضة على الكثير من الممارسات الإعلامية بدون وجه حق.
بل إن هذه الدول أيضاً لم تنجح فى تطوير تنظيمات نقابية فعالة للتعبير عن الجسم الإعلامى بشكل يحظى بالاستقرار والحماية القانونية؛ ومصر تعطى مثالاً واضحاً فى هذا الصدد؛ إذ لم ينجح الإعلاميون المصريون حتى تلك اللحظة فى إطلاق نقابة تمثلهم وتحمى مصالحهم وتدافع عن حقوقهم.
ولأن كاتب تلك السطور كان آخر المتحدثين فى الندوة المشار إليها، فقد طُلب منه أن يقترح خريطة طريق يمكن من خلالها لدول التغيير العربى أن تنجح فى بناء منظومات إعلامية متطورة خلال المراحل الانتقالية التى تمر بها.
وكان من المفيد فى هذا الصدد التأكيد أولاً على ضرورة أن يعمل الإعلاميون فى بلدان التغيير العربى على توضيح حقيقة مهمة تبدو غائبة عن كثير من المواطنين العرب؛ وتلك الحقيقة مفادها أن حرية الإعلام من حرية الوطن والمواطن، وأن الإعلام الحر مصلحة عامة، وأن الدفاع عن حرية الإعلام ليس دفاعاً عن ميزة نسبية أو حق خاص للصحفيين والإعلاميين، وإنما هو دفاع عن حق عام، لا تقوم بغيره الدولة الحرة، ولا تحقق التقدم والعدالة لمواطنيها.
كان المفيد أيضاً التأكيد على أن مخاطر عقد كامل من أخطاء الإعلام وانفلاتاته لا تساوى مخاطر يوم واحد من التقييد والقمع، دون أن يعنى ذلك بالطبع التساهل مع وسائل الإعلام التى تمارس الكذب والفبركة وخداع الجمهور.
فكيف يمكن تطوير الإعلام إذن فى المراحل الانتقالية فى بلادنا؟
سيأتى التطوير من خلال جهود تعمل بالتوازى على ثلاثة جوانب أساسية؛ الجانب الأول هو ضمان حرية الإعلام، والجانب الثانى هو التنظيم الذاتى لصناعة الإعلام، والجانب الثالث هو الهيئات الضابطة المستقلة ذات التمثيل المتوازن التى تشرف على صناعة الإعلام وتقوم أداءه. وهو ما يمكن أن نشرحه بوضوح فى مقال مقبل.