عندما توجد إرادة فلابد أن توجد طريقة، وعندما يوجد علم ورؤية فلابد أن تولد نتيجة.. وهذا ما حدث مع ميلاد التليفزيون المصرى كمبنى ومعنى والذى كشف عن تفاصيله د.عبدالقادر حاتم فى مذكراته التى صدرت مؤخراً، والفصل الخاص بإنشاء التليفزيون به دلالات مهمة تلقى بظلالها على الواقع الآن، خاصة أن الإعلام ومصير تليفزيون الدولة من الأزمات المطروحة على الساحة ومن المشكلات التى يتداول الحديث عن وسائل إصلاحها، ومن الدلالات الخطيرة والأسلحة التى إما أن تكون فاسدة ومفسدة وإما أن تكون صالحة وصحيحة.
دخل التليفزيون مصر بلا إمكانيات ولا كوادر فنية متخصصة، وكانت القصة تبدو مستحيلة لكن الإرادة والتخطيط الجيد جعلا مصر رائدة فى مجال الإعلام. يقول د.حاتم إن مجلس الوزراء رفض فكرة إنشاء التليفزيون الذى قال عبدالناصر يوم افتتاحه «كنا جميعاً نعارض المشروع إلا رجلاً واحداً وهو حاتم». وقد بدأ المشروع بـ200 ألف جنيه فقط، يقول: لم يكن فى مصر شخص واحد دارس هندسة تليفزيون وفتحنا الباب لبعض الشباب من خريجى المدارس لتعلم هندسة التليفزيون وإصلاحه وكان علينا أن نقيم محطات لتقوية الإرسال التليفزيونى كل خمسين كيلومتراً وواجهتنا مشكلة العملة الصعبة للحصول على الأجهزة اللازمة لإنشاء التليفزيون من أمريكا بالدولار فاتفقنا مع الشركة الأمريكية المنتجة على حل وكانت أمريكا تعطينا زيوتاً معونة بالدولار فطلبت من الشركة أن تعطينا الأجهزة وأنا أعطيها الدولار ونشترى الزيوت بالعملة المصرية وإلا سنضطر للشراء من اليابان، أما أجهزة الاستقبال فاتفقت مع اليابان على إقامة مصنع النصر للتليفزيون وبه خطوط من توشيبا وسونى وناشيونال والدفع بالتقسيط وبعد تصدير جزء من الإنتاج إلى الخارج.
أما المسرح الذى سننقل منه المسرحيات والمسلسلات فقد حصلت على مسرح كان مخصصاً للملك فى قصر عابدين وتم تشكيل أقسام أطفال وإخراج وتأليف وتصوير وكاريكاتير وأنشأنا شركة النصر لإصلاح التليفزيون من الإسكندرية إلى أسوان وبدأنا بدور واحد فى بناء التليفزيون ثم تابعنا دوراً بعد دور حتى تم البناء الضخم على غرار التليفزيون الفرنسى، وكان أول تليفزيون فى العالم العربى يبدأ بهذه القوة فكان فى لبنان تليفزيون يعمل ساعة أو ساعتين وأغلق أبوابه.
إذاً، قصة بناء التليفزيون بتفاصيلها المثيرة والملهمة والتى وردت فى مذكرات د.حاتم التى قدمها إبراهيم عبدالعزيز تؤكد أن التليفزيون لم يكن مجرد مبنى إنما صناعة ضخمة وأهداف كبرى وتؤكد أيضاً أن النوايا وحدها لا تكفى وإنما لا بد من رؤية وسياق عام وإبداع فى الأفكار وإبداع ودقة فى التنفيذ وأنه عندما تكون هناك جرأة وتخطيط جيد وابتكار حلول يصبح المستحيل ممكناً وواقعاً جميلاً، وفقر الإمكانيات ليس عقبة طالما هناك ثراء فكر ويقظة تفكير وإرادة تخطيط.
أما من حيث التليفزيون والإعلام كمعنى فالظروف التى تم بناء التليفزيون المصرى فى جانب كبير منها تشبه الظروف الآن فنحن نريد إعادة بناء مجتمع من جديد بشكل صحيح. وفى مذكرات د.حاتم هناك دلالات كبيرة منها أن التليفزيون لم يكن ملحمة بناء مبنى وهندسة وأجهزة ولكنه صنع حركة فنية وثقافية وإبداعية وكان مدركاً فى محتواه لمتطلبات عصره فلبى احتياجات المجتمع فى التعليم والوعى وتعامل مع تحديات العصر.
يقول د.حاتم: كنا قد خرجنا من معركة العدوان الثلاثى فى 1956 وانتصرنا على 12 إذاعة معادية بميزانية ربع مليون جنيه فى مواجهة تمويل بريطانى لأجهزتهم الإعلامية التى رصدوا لها 25 مليون جنيه إسترلينى وهذا ما دعانى إلى التفكير فى إنشاء نافذة إعلامية جديدة كضرورة ملحة استوجبت إنشاء التليفزيون المصرى بالإضافة إلى مطلب سياسى قومى من أجل معركة التنمية فى مصر لتعليم الشعب وتثقيفه فلا نجاح للتنمية بدون ثقافة.
يقول د.حاتم: «كانت الفرقة قد أفلست وخصصت لمحمود رضا وفريدة فهمى راتباً شهرياً وعادت الفرقة إلى نشاطها وقدمت أروع أعمالها التى طافت بها أنحاء العالم لتصبح خير سفير لمصر فى الخارج وأنشأ مسرح البالون الذى قدم الليلة الكبيرة التى شاهدها أكثر من مليون متفرج واستطعنا أن نسترد الفنان المصرى الذى كان قد بدأ الهجرة لعدم وجود نشاط يستوعب طاقات الفنانين وقدمنا فنانين جدداً منهم على سبيل المثال عادل أمام ونور الشريف وصلاح قابيل».
إذاً، نهضة أى مجتمع وبناؤه تتم من خلال وعى وثقافة وليس من خلال تجارة وإسفاف، فقد استطاع التليفزيون أن يجعل الشعب كله يكاد يكون وحدة واحدة الجميع فيه يعملون لخدمة الأهداف الوطنية من خلال نهضة ضخمة فى كل الميادين بما فيها المجال الفنى ولأن الإعلام الأجنبى كان يمثل أداة كبيرة للدعاية ضد مصر التى كان يحكمها الديكتاتور، كما كانوا يزعمون، نجح التليفزيون المصرى فى المعادلة الصعبة وتساءلت صحيفة «الجارديان» البريطانية: «هل هذه الحركة مجرد ومضة سطعت ثم اختفت أم أنها شعلة ثقافية لها جذورها فى التاريخ المصرى؟».
إننا أمام مشهد إعلامى يؤكد أن من يجيد ألعاب البهلوانات هو الرابح وأنك كلما كنت أكثر فجاجة وانحطاطاً مغلفاً بما يرونه خفة ظل ومنوعات مبهرة فأنت الرابح أيضاً فهذا ليس إعلاماً إنما هو مجرد بيزنس لا يقيم صناعة ولا نهضة ولا تنمية حقيقية ولا يقود للرقى إنما يخدم أصحابه فقط ويؤذى ويدمر المجتمع.
المقارنة الآن لا بد أن تكون بين «إعلام مثقف ومثقف» (بفتح القاف وكسرها) وبين «إعلام مغيب ومغيب» (بفتح الياء وكسرها).