«هنالك أيام فارقة فى تاريخ الشعوب، أيام تصنع التاريخ.. تُرى هل نمر ببعض منها أم تراها لحظات احتضار أخرى لشعب يموت؟!».
تلك كانت أولى كلمات مقالى فى 25 يناير 2011.. ومرت السنون فى لعبة تبادل المقاعد والاتهامات بين أصدقاء الأمس وأعدائه. وبلا تردد من إعادة النظر ومراجعة النفس ومقاومة السقوط فى مستنقع الكبر (والمقاوحة) أو على النقيض الانزلاق مع تدافع القطيع، ما زلت أحاول أن أكون شجاعة لدرجة التوقف عن الحسابات التافهة لاعتبارات البشر، بل الانحياز للحقيقة المجردة من المصلحة أو الهوى. أتذكر أحلاماً ترجمتها يومها إلى كلمات ملأت بها الدنيا صياحاً فى خضمّ الحدث تقودها جياد الحماسة وعربتها لأقف عند كل منعطف جديد يطل علينا منه أحد أوجه الحقيقة قبيحاً غالباً، متجملاً فى بعضها، بريئاً أحياناً.. ألقى السؤال ذاته من زاوية رؤية تتسع بمساحات انقشاع الغيوم.. ويبقى السؤال: هىّ ثورة ولا مؤامرة؟! فهل لك يا صديقى أن تبحر معى فى طيات كلمات كان ولا يزال التاريخ وصاحبة الجلالة شهوداً عليها حين نُشرت فى حينها.. وظلت مشروع كتاب عاص على الظهور للنور.. بحثاً عن تلك الغائبة الحاضرة.. إنها الحقيقة.
فلتحيا القلة المندسة
ميدان التحرير، أو الإسماعيلية سابقاً، والذى كان يتوسطه قديماً كتلة هندسية غامضة بالنسبة لى وأنا طفلة، حتى عرفت أنها نصب ضخم أنشأه الملك فاروق ليكون قاعدة تمثال لوالده الملك فؤاد.. ولكن هذا لم يحدث قط.
وكانت به يوماً نافورة عملاقة تتوسط بحيرة كبيرة ومساحات خضراء يمرح فيها الصغار ومقاعد حجرية هى ملجأ لـ«حبّيبة» زمان الذين كانوا يجلسون عليها بحياء وليس «حبّيبة اليومين دول اللى تندبّ فى عنيهم رصاصة»، وقد تم تغيير اسمه إلى ميدان السادات دون تفعيل حقيقى، والسر أنه حدث بعد وفاته.. ولو كان ذلك فى حياته لقام السادة المسئولون بتفعيل ذلك كواجب وطنى.
أما الآن فقد امتلأ عن آخره بالقلة المندسة الذين شكلوا مزيجاً عجيباً من فئات كل درجات السلم الاجتماعى وقد تغيرت علاقاتهم ببعض تغيراً مبهراً، فتجد الكثيرين وقد نزلوا عدة درجات ليستمعوا بود وحب لآخرين كانوا خارج حدود الميدان، خارج حدود رؤيتهم أيضاً، فترى شباب العالم الافتراضى وقد خرجوا علينا إلى عالم الواقع، وترى مثقفين أصحاب فكر وقد نزلوا من أبراجهم العاجية على اختلاف توجهاتهم، وحتى أعمارهم، شباب أقل قدراً فى التعليم والمظهر لكنهم يجتهدون لمقاومة الهمجية التى يشى بها مظهرهم المتواضع.. رجال من طبقة الموظفين وما شابهها، أسطوات، معلمين، صنايعية، أساتذة جامعة، فنانين تفضح أدواتهم موهبتهم، وقد حمل كل واحد منهم سلاحه الخاص: جيتار، فيولين، ناى، وجاء ليلبى النداء. وعلى الجانب الآخر من الميدان بدأت تظهر وجوه أكثر تجهماً، تمركزت بجوار جامع عمر مكرم، ترفض أحياناً حتى الحوار رغم مطالبتهم بالديمقراطية، لا تميزهم أى سمات أو مظاهر أصولية ربما من منطق التقية، وعندما اصطدمت ببعضهم لمحاولته مصادرة رأيى همس أحد الرفاق وهو يسحبنى بعيداً.
- ما تحاوليش، أصل دول الإخوان!!
ولأن هذا الشعب كييف شاى، خاصة فى هذا البرد القارس فقد استوقفنى عادل، وهو رجل متوسط العمر، يوزع الشاى مجاناً رغم مظهره البسيط، سألته لماذا:
- نفسى أعمل حاجة لمصر وأنا قهوجى.
لأبتسم وأشد على يده وأنا أحمل كوباً من الشاى أرتشف منه باستمتاع، رغم أنى، على غير عادة المصريين، لا أتعاطى الشاى نهائياً.
اقتربت من شاب صغير، عرفت أن اسمه جهاد، ولأننى أحب هذا الاسم فهو اسم ابنى، وجدتنى أتحدث إليه وقد زالت اعتبارات كثيرة نراعيها فى حياتنا العادية، فأنا لا أتحدث مع الغرباء، ولكن أين هم الغرباء؟! إن كل من حولى أقرباء.. جداً. فاجأنى «جهاد» بكلام لم أتصور سماعه.. لأنظر له بذهول.
- أنا طول عمرى بأكره مصر.. أيوه، حتى عمرى ما شجعتها فى الكورة، كنت بأشجع الفريق التانى.
- يا نهار أسود.
- أكدب عليكى.. هىّ دى الحقيقة بالذات علشان جمال مبارك.. مش عايزه ينبسط.. مش هو بيروح يشجع!!
- اسمح لى منطق عجيب جداً.. أمال انت بتعمل إيه هنا؟!
- مش عارف إيه اللى حصل لى.. من ساعة ما شفت اللى حصل يوم التلات (كان ذلك يوم الجمعة) لقيت نفسى هنا ومستعد أموت علشان خاطر مصر.. ومضى.
نسيت أن أقول لك يا قارئى العزيز إن جهاد كان بصوته بحة شديدة من كثرة اعتلائه أحد أعمدة الميدان والهتاف والكل خلفه: تحيا مصر.. تحيا مصر.. وللحديث بقية.