الزعامة الشعبية فكرة ومفهوم لا يرتبط -فى مصرنا المحروسة- بزمان أو ظرف أو توقيت أو سلطة، بل هو حاضر باستمرار، خصوصاً خلال المحطات الفارقة فى تاريخنا، التى تعقبها تحولات فى شكل الدولة، أو نوع الحكم، أو طبيعة العلاقة بين السلطة والشعب. أدوار وطريقة أداء الزعامات الشعبية، وكذلك طريقة تعامل السلطة معها، تكاد تكون ثابتة طيلة الفترة الممتدة منذ تجربة محمد على باشا وحتى الآن. ولست أجد فارقاً جوهرياً بين رموز «الزعامة الشعبية» التى ظهرت عام 1805، وأبرزهم عمر مكرم، أو عمر أفندى النقيب (نقيب الأشراف)، كما كان يطلق عليه «الجبرتى»، ورموز النخب السياسية والفكرية والشعبية التى تظن بنفسها القدرة على تحريك الشعب، منذ قيام ثورة يناير 2011 وحتى الآن. تأمل معى حدوتة «عمر مكرم» وسوف ترى!.
عمر أفندى النقيب كان واحداً من أبرز الزعامات الشعبية فى تاريخ مصر، مؤكد أنك تحفظ أنه لعب دوراً قيادياً فى الثورة الشعبية التى شهدتها مصر عام 1805، وأدت إلى الإطاحة بالوالى «خورشيد باشا»، ليدفع الثوار بعدها بمحمد على باشا إلى سدة الحكم، ويخوضون معه معركة تثبيت أركان حكمه ضد كل من الدولة العثمانية، والإنجليز، والمماليك. استغرقت هذه المهمة أربع سنوات بالتمام والكمال، بعدها، وبالتحديد فى عام 1809، بدأ محمد على يفكر فى التخلص من «عمر مكرم»، وتفكيك الظاهرة المسماة بالزعامة الشعبية. وكانت حسبته فى ذلك أن هذه الزعامة أصبحت معوقاً لمشروعه فى بناء جيش ودولة مصرية تستطيع أن تشكل نقطة انطلاق للمحروسة نحو ما يحيط بها من دول، كان الباشا فى حاجة إلى تمويل لمشروعه، ولم يجد غير الرعية ليجمع منها، ففرض عليها الضرائب والمكوث، وحاصر أموالها، وكان من الطبيعى أن يلجأ المضارون إلى الزعامة الشعبية، وكان عمر مكرم يحب لعب دور «محامى الشعب»، فوقعت المواجهة بينه وبين الباشا «محمد على».
قرر الباشا التخلص من الزعامة الشعبية، وكان ذلك أمراً طبيعياً، فهو يعلم أن رموزها هى التى دفعت به إلى كرسى الحكم، وأن بمقدورها الإطاحة به من فوق كرسيه حين تشاء، ولم يكن محمد على من الشخصيات التى تترك نفسها رهناً للظروف، وللإنصاف فقد هدده عمر مكرم تهديداً صريحاً بذلك، فكان أن كاد له، واختار السكة المعروفة لتفكيك الزعامة الشعبية، ومعادلتها بسيطة، فالشعبيون كمجموعة كثيراً ما تشيع بينهم أخلاقيات التحاسد والتباغض، ويجد كل واحد فيهم أنه أولى من غيره بالقيادة، من هذه الثغرة نفذ محمد على، فبدأ يلعب معهم لعبة المغانم والمغارم، حتى دق إسفيناً بينهم وبين عمر مكرم الذى ظل مستقيماً على ما يؤمن به من ناحية، وواثقاً فى قدرته على تحريك الشعب فى اللحظة التى يقررها من ناحية أخرى. وجد عمر مكرم نفسه فى النهاية وحيداً معزولاً بعد أن انفض من حوله باقى الزعماء والمشايخ، فاستفرد به محمد على، وقرر نفيه إلى دمياط، فخرج «الأفندى» مطروداً، متعجباً من أمر الشعب الذى لم يحرك ساكناً، ورضى بما آل إليه حاله، ومات «الزعيم» -رحمه الله- دون أن يفقه أن للشعوب معادلة، وللحكام معادلة أخرى، وأن أضعف حلقة فى التاريخ هى «أفندية الزعامة الشعبية».