الظواهر السياسية التى تظهر فى العالم والسلسلة الجهنمية من الفوضى والنزاعات والقلاقل التى لا يمكن التنبؤ بنهايتها ولا تحديد أسباب منطقية واضحة لها والأنواع الجديدة من الحروب أعادت إلى دائرة الاهتمام والانتباه دراسة مثيرة عن علم الجهل، حيث قام باحثان أمريكيان بإصدار كتاب بعنوان agnotology، وهى كلمة تنطبق على آلية نشر الجهل بشكل متعمد، ومشتقة من كلمة antology، التى تُطلق على ما يُعرف باسم علم الوجود، وهذه الكلمة الجديدة أصبحت تشير إلى دراسة الأفعال المقصودة والمتعمدة لإشاعة الحيرة والشك والخداع بهدف تحقيق مكسب أو بيع سلعة أو نشر الجدل لاستنزاف طاقة البشر، وقد أثبت الكاتبان فى هذا الكتاب أن تسجيل أمثلة معينة من الجهل يمكن أن يكون له أهمية تاريخية واجتماعية كبيرة، مثال على ذلك الموضوعات السرية العسكرية. الهدف من «أجنوتولوجى» هو تعزيز دراسة الجهل من خلال تطوير أدوات لفهم كيف ولماذا هناك أشكال مختلفة من العلم لم تصل إلى حد التكوين أو اختفت أو تأخرت أو أُهملت لمدة طويلة للأفضل أو للأسوأ فى مناطق مختلفة فى التاريخ.
وقد قام الكاتبان بالبحث عن صلة بين الجهل (السرية والغباء واللامبالاة والرقابة والتضليل الإعلامى والإيمان والنسيان) والعلوم، ولأن النشر والحذف يتطلبان أساليب دقيقة ومعرفة تامة بعلم النفس والسلوك والإدراك قام أحد الكاتبين بصياغة تعريف علم الجهل بأنه هو العلم الذى يدرس صناعة ونشر الجهل بطرق علمية رصينة، وقد فنّد الكاتبان الوقائع التاريخية التى تثبت أنه على مر الأزمنة تصارع السلاطين والساسة على حق امتلاك المعرفة ومصادر المعلومة مستخدمين المعرفة كسلاح بشكل يوازى المال والعتاد العسكرى.
استشهد الكتاب بما قاله دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الأمريكى الأسبق: التقارير التى تقول إن شيئاً لم يحدث دائماً مثيرة للاهتمام وبالنسبة لى لأنه كما نعلم هناك الأشياء المعروفة وهناك أشياء نعرف أننا نعرفها ونحن نعلم أيضاً أن هناك أشياء نعرف أننا لا نعرفها ونقول عنها إن هناك بعض الأشياء التى لا نعرفها، ولكن هناك أيضاً جهلنا بالجهل تلك التى نقول عنها إننا لا نعلم أننا لا نعرفها، وإذا نظر المرء إلى تاريخ جهلنا بالجهل تلك التى نقول عنها إننا لا نعلم أننا لا نعرفها، وإذا نظر المرء إلى تاريخ بلدنا والبلدان الحرة الأخرى نجد أن الفئة الأخيرة هى التى تبدو الأصعب.
وقد وضع الكتاب مثالاً للبحث وهو دعايات شركات التبغ التى تهدف إلى تجهيل الناس حول مخاطر التدخين، ففى وثيقة داخلية تم نشرها من أرشيف إحدى شركات التبغ الشهيرة تبين أن أبرز استراتيجية للنشر استخدمتها تلك الشركات كانت عن طريق إثارة الشكوك فى البحوث العلمية التى تربط التدخين بالسرطان، وقد قام لوبى التبغ فى أمريكا برعاية أبحاث علمية هدفها تحسين صورة التبغ اجتماعياً وتغييب مخاطره، وقد احتاج لوبى التبغ إلى أداة تستطيع توصيله لهذا الهدف فكانت الأداة هى العلاقات العامة حيث إنها المتعامل الرئيسى مع الصحافة ويمكن استخدامها لنقل أو التشكيك فى المعلومات المراد توصيلها للجمهور، وقد استخدمت الدولة العلاقات العامة بداية من الحرب العالمية الأولى إلى حرب العراق، حيث أُنشئت وكالة مستقلة مسماة بلجنة كريل، واستهدفت الولايات المتحدة من إنشاء هذه المؤسسة التأثير على الرأى العام الأمريكى تجاه الحرب العالمية الأولى.
مبدأ إثارة الرعب فى السياسة يكون إما عن طريق صنع أعداء وهميين لتحشيد الرأى العام أو ترعيب الجمهور بالقدر المظلم إذا لم يشاركوا فى هذه المعركة، ومثال آخر على ذلك ما حدث فى حرب العراق من خلق وهم وجود أسلحة نووية فى العراق ستقوم باستخدامها ضد الشعب الأمريكى مستخدمين حالة الرعب التى أوجدوها بضرب البرجين فى ١١ سبتمبر.
وقد سهل العصر الرقمى على انتشار الجهل والتضليل فلا يتم استخدامه الآن من قبَل الحكومات والمؤسسات التجارية والصناعية الكبرى وأصحاب النفوذ للحفاظ على مصالحهم، ولكن يستطيع كل من يرى نفسه صاحب قضية، صدق فى ذلك أو كذب، أن يعمل على دفع الرأى العام إلى تغيير اتجاهاته، فلقد سهلت وسائل التواصل الاجتماعى وصول الأفراد إلى الرأى العام دون الحاجة إلى إنشاء مؤسسات للعمل على ذلك، والصمود أمام كل هذه القوى يتطلب جهوداً ذاتية ووعياً مستقلاً يبحث عن الحقيقة بعيداً عن العاطفة والأمنيات وهو ما لا يتوافر للمواطن العادى معظم الوقت فى ظل ضغوط وسرعة الحياة.