«وكذلك أهل البلاد قويت همتهم وتأهبوا للبروز والمحاربة، واشتروا الأسلحة ونادوا على بعضهم بالجهاد، وكثر المتطوعون، وجمعوا من بعضهم البعض دراهم، وصرفوا على من انضم إليهم من الفقراء، وخرجوا فى مواكب وطبول وزمور، فلما وصلوا إلى متاريس الإنجليز دهموهم من كل ناحية على غير قوانين حروبهم وترتيبهم، وصدقوا فى الحملة عليهم، وألقوا أنفسهم فى النيران ولم يبالوا برميهم، وهجموا عليهم واختلطوا بهم، وأدهشوهم بالتكبير والصياح حتى أبطلوا رميهم ونيرانهم، فألقوا سلاحهم وطلبوا الأمان، فلم يلتفتوا إلى ذلك، وقبضوا عليهم وذبحوا الكثير منهم وحضروا بالأسرى والرؤوس على الصورة المذكورة، وفرّ الباقون إلى من بقى من الإسكندرية، وليت العامة شكروا على ذلك أو نُسب إليهم فضل، بل نُسب كل ذلك للباشا وعساكره، وجوزيت العامة بضد الجزاء بعد ذلك».
هكذا كتب «الجبرتى» يصف بلاء المصريين فى موقعة «الحماد»، وهى واحدة من كبرى المعارك التى خاضها المصريون فى مواجهة «حملة فريزر 1807»، بل قل إنها المعركة التى أدت إلى خروج تلك الحملة الإنجليزية من مصر. وبعيداً عن مسألة الذبح وحمل رؤوس الأعداء، وارتباطها بسياق الحروب فى ذلك الوقت، يستطيع المتأمل لهذه الفقرة أن يستخلص درسين أساسيين، أولهما أن الشعب هو اللاعب الأول فى الأحداث التى شهدتها مصر خلال تاريخها الحديث والمعاصر، والدرس الثانى أن الشعب عادة ما ينال جزاء سنمار من الحكام الذين يحصدون ثمار جهده وتضحياته من أجل هذا البلد.
إذا كان المؤرخون ينظرون إلى الحملة الفرنسية كمفتتح لتاريخ مصر الحديث، فبإمكاننا القول إن الشعب كان صاحب الفضل الأول فى إخراج الفرنسيين من مصر، عبر ثورتين، قدّم خلالهما الكثير من التضحيات، ورغم محاولات «بونابرت» الحثيثة للتقرّب من الشعب، ثم زواج الجنرال «مينو» من مصرية مسلمة، فإن كل ذلك لم يُقنع الشعب، واضطر الفرنسيون إلى الخروج من مصر. بعدها رفع الشعب ولاة بنى عثمان من جديد إلى سدة الحكم، فأذاقوه الأمرين، ليثور الشعب ضدهم، وتندلع احتجاجات عارمة ضد الوالى خورشيد باشا، قادها عمر مكرم، كانت نتيجتها خلعه من الحكم وتولية محمد على مكانه والياً على مصر، بإرادة الشعب وقراره. ساند الشعب محمد على فى الكثير من المواجهات التى خاضها ضد المماليك والإنجليز والدولة العثمانية، ومشهد موقعة الحماد الذى يحكيه «الجبرتى» عالياً يؤكد أن الشعب هو الذى دخل المعركة ضد الإنجليز وانتصر فيها، حين كان محمد على والقوات التابعة له يطاردون المماليك فى الصعيد. وكان المماليك حينذاك المنافس الأخطر والأهم للباشا على السلطة.
استقر «محمد على» على كرسى الحكم بفضل الشعب وإرادته، وكان جوهر غضب الشعب منه أو عليه اعتماده على فكرة «الجباية» فى جمع الأموال اللازمة للإنفاق على الجيش والمشروعات المقرر بناؤها، كما حدثتك ذات مرة، وهو الأمر الذى كان يستفز الناس، ويدفعهم إلى التمرّد والعصيان، وهو ما واجهه محمد على بالقمع، وتقديرى أن هذه واحدة من الثغرات التى عطلت مشروع محمد على فى بناء الدولة عن الديمومة والتواصل بعد وفاته، لأن السلطة حينذاك لم تسعَ إلى إقناع الشعب بقيمة ما يحدث، بل ساقته إلى حيث تريد، طبقاً لرؤيتها، ونسيت أن الفضل الأول والأخير يعود إليه فى الجلوس على كراسى الحكم!.