الأستاذ الدكتور محمود إسماعيل أستاذ جامعى وباحث أكاديمى، يعمل دون ضجيج ودون أن يشغل نفسه بأن يقدم نفسه لأحد، لكنه يدرك جيداً أن ما يقدمه من دراسات قادر على أن يتقدم به صفوف كثيرين يكثرون من إقحام أنفسهم فى صفوف لا يستحقون الانتماء إليها.
والدكتور محمود إسماعيل يعيش مع تخصصه وبتخصصه محاولاً أن يقول ما يستحق أن يقال، أو بالدقة ما يجب أن يقال، وهو يجمع بين نوعين من التخصص؛ دراسة التراث والفقه ودراسة تاريخ الفكر والفقه الإسلامى، ويمزج بين الاثنين فيما سماه «المؤرخ-المفكر». والكتاب «التراث وقضايا العصر» وكما يتضح من مقدمته قد انشغل به المؤلف منذ 2010 ولم ينشر إلا فى 2016، وهو تجميع لعديد من الدراسات يكمل يعضها بعضاً عبر تخطيط منهجى مسبق. وجوهر القضية عند محمود إسماعيل أن هناك كثيراً جداً من الدراسات عن التراث الإسلامى، وكثيراً جداً من دراسات التاريخ الإسلامى، لكن دراسات التراث أتت بعيداً عن تاريخيته كما لم يحفل المؤرخون بدراسة التراث.. فأتى كل منهما ناقصاً ووجدت بينهما حلقة مفقودة تمثلت كما قال فى «عدم الربط الجدلى بين معارف التاريخ ومعارف التراث» (صفحة 6) وكانت النتيجة اختلافاً كبيراً فى تقويم التراث، البعض يرى ضرورة التخلص منه كشرط للاندفاع لحل القضايا المعاصرة باعتبار أنه عبء يعيق الأخذ بالحداثة، بينما يتشبث به البعض باعتباره مستودعاً للأصالة. ويرى المؤلف أن كلا النظريتين أخطأت الهدف؛ فالأصالة والمعاصرة ليستا نقيضين، ويقول «إن كل نهضات الأمم والشعوب بدأت بحركة إحياء للقديم وفرزه بهدف الوقوف على السلبيات واستبعادها والتمسك بالإيجابيات للانطلاق منها نحو المعاصرة».
وهكذا وبرؤية «المؤرخ-المفكر» وبمنهج الربط بين الماضى والحاضر بهدف كشف الجذور التاريخية للمشكلات ومعرفة موقف القدماء، مع حرص على التمييز بين مفكرى السلطة ومفكرى المعارضة والتفريق بين منهج الاتباع والفهم النصى والإغراق فى الغيبية وبين الإبداع والعقلانية والنزعة العلمية. وهو الأمر الذى كشف عن حقائق جديدة منها أن المناهج الفكرية لعديد من الفلاسفة والمفكرين المسلمين قد انطوت على مشروعات فى الإصلاح السياسى والاقتصادى والاجتماعى والثقافى.. ثم يقول «ولأن العالم الإسلامى لم يشهد ثورة رأسمالية حقيقية (مثل الثورات الأوروبية فى القرن 19) فإن هذه المناهج تكتسب قيمتها من إمكانية الاسترشاد بها فى مواجهة قضايانا المعاصرة التى لا تختلف جذرياً عن مثيلاتها خلال العصور الوسطى الإسلامية» (صفحة 8). ويصف د.إسماعيل محاولته هذه بأنها تستهدف فى التحليل الأخير إلقاء مزيد من الضوء على القضايا المعاصرة والاسترشاد بجهود القدماء فى محاولة التوصل إلى حلول لها، ومن ثم الاستفادة من منجزات العلم الاجتماعى المعاصر فى محاولة اللحاق بعجلة العصر. ويقول عن هذه الدراسات إنها محاولة لتوظيف نتاج البحث والدراسة الأكاديمية فى تحقيق أغراض تنويرية على الأقل، ولذلك فهى تستهدف المثقف العام أكثر من كونها موجهة للباحثين المتخصصين، وذلك كى يستطيع المثقف العام أن يحيط علماً بجوانب غامضة وقضايا وإشكاليات قد لا يسعفه الوقت لبحثها ودراستها (صفحة 9). وقبل أن يبدأ د.إسماعيل دراساته يلفت نظرنا إلى مسألة مهمة نتغافل نحن عنها وهى أنه منذ ما قبل 25 يناير وحتى الآن تستصرخ القيادات السياسية والمؤسسات الدينية الأزهر ووزارة الأوقاف بالعمل الجاد لتجديد الخطاب الدينى. وهذا يعنى بوضوح أن الخطاب الدينى المعاصر لم يعد صالحاً، بل هو عاجز عن تلبية ومواجهة المتغيرات المحلية والعالمية بما يحتم تجديده. ويزداد هذا الاستصراخ صراخاً مع تعاظم المد «المتأسلم» (وهذه التسمية من عندى) وطرحه خطاباً متطرفاً أبعد ما يكون عن روح الإسلام السمحة، وتطور الأمر إلى التطاول على الأنظمة الحاكمة واللجوء إلى الاغتيالات والاعتداء على أهل الفكر والرأى؛ الأمر الذى شكل عائقاً أمام مشروع التقدم والتنمية واللحاق بالعصر باعتبار أن هذا المشروع «جاهلى» ومستورد عن النماذج الغربية الكافرة. وإزاء عجز المؤسسات الدينية عن التجاوب مع هذا الاستصراخ بسبب تقليديتها ظهر كثير من «الدعاة الهواة» (أطباء، مهندسون، وحتى غير متعلمين) وهم مجردون من أدنى قدر من الثقافة الدينية، وتصدوا للافتاء وتأويل القرآن الذى لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون فى العلم، وقاموا بشرح الأحاديث النبوية التى لا يزال معظمها بحاجه إلى الفرز، ويسعون بذلك لإغواء العوام المتدينين بخطاب أجوف عاطفى وانفعالى.. وجرى ما يمكن تسميته «التجارة بالإسلام». كذلك تعاظم المد التكفيرى على المستوى العالمى فتحول الفكر (المتأسلم) إلى إرهاب دولى.. وهو ما نحن فيه الآن. وما تقوم به داعش والقاعدة من جرائم قامت بفتح الباب أمام أمريكا ودول أوروبية للسعى لتمزيق عديد من الدول العربية والإسلامية بالإضافة إلى انعكاساته على ما يحدث فى مصر.
ويشكو د.إسماعيل من أن الاستجابة لصراخ مسلسل الرؤساء المتتاليين كانت تقليدية وغير مجدية مثل تطوير أو توحيد خطبة الجمعة.
ولكن ثمة سبيلاً آخر، نواصل دراسته عبر دراسة د.محمود إسماعيل.