هل يوجد فى مصر منظومة صحية متكاملة؟.. بمعنى آخر: هل تكفل الدولة للمواطنين العلاج فيما يسمى «المستشفيات الحكومية» بالمجان.. أم أنها «خدعة» قبلناها فى صمت حتى كشفتها هيئة الرقابة الإدارية مؤخراً، بالتفتيش المفاجئ على عدة مستشفيات حكومية؟.
حتى مستشفيات «التأمين الصحى» التى يدفع الموظف تكلفتها من راتبه بها نفس المأساة التى نسدد فاتورتها من أرواح المصريين: (غياب شبه كامل للأطباء، أجهزة تشخيص وعلاج معطلة، أدوية منتهية الصلاحية، تمريض غير مؤهل، غياب التعقيم وانتشار العدوى).. إلخ السلبيات التى جعلت شعار مستشفيات الحكومة: (الداخل مفقود والخارج مولود)!.
المؤلم أن المستشفيات التى نتحدث عنها هى «مؤسسات تعليمية»، يفترض فيها أن تخرج أفضل كوادر الطب فى العالم العربى (هكذا كانت).. أما الآن فقد تحولت إلى «بيزنس للتمريض»: (تدفع، تاخد بطانية وسرير، أو تحصل على الدواء فى ميعاده، أو تقابل رئيس القسم).. أما شباب الأطباء فبعضهم «مطحون» فى عيادة الأستاذ الخاصة أو مستشفاه الخاص لينال الدرجة التى يسعى إليها.
الاستثناء من هذا المشهد الكارثى أن بعض «الأساتذة» يخصصون يوماً أو أكثر فى الأسبوع لمرضى المستشفى الحكومى، وفاء لدين البلد الذى علمهم ولقسم «أبقراط» الذى أقسموا عليه.
قطعاً لا يمكن أن تترك ملايين المرضى ومليارات الجنيهات التى تخصصها الدولة للصحة بين أيادى الإهمال والفساد، معتمداً على «ضمير» القائمين على منظومة العلاج.. خاصة أن (الميزانية المخصصة لقطاع الصحة فى مشروع الموازنة العامة للدولة، بلغت نحو ٤٨٫٩ مليار جنيه مقارنة بنحو ٤٥ مليار جنيه فى موازنة عام ٢٠١٥-٢٠١٦ بمعدل نحو ٨٫٩٪، حيث يصل الإنفاق على قطاع الصحة إلى نحو ٦٦٫٣ مليار جنيه، بعد إضافة الهيئات الاقتصادية، وبعض جهات الموازنة العامة بجانب الاعتمادات المدرجة فى التقسيم الوظيفى).. والنتيجة: (مبانٍ متهالكة، أطباء يضربون لرفع رواتبهم، أجهزة تنقل العدوى للمرضى، مريض يعانى فى صمت، باعة حلوى، منشط جنسى بغرفة إنعاش القلب بـ«المراغة».. وقطط).
«قطط» داخل غرف العمليات وفى طرقات مستشفى «روض الفرج العام»، وغياب شبه تام للأطباء، غرف القسم الداخلى بالمستشفى تحولت إلى سكن تمريض وشئون مالية وإدارية، وعدد كبير من غرف المرضى أصبحت مخازن وصيدليات.. هذا ما كشفت عنه «النيابة الإدارية»، بعدما انتقل فريق منها للتأكد من واقعة احتلال القطط للمستشفى، والتى انتشرت فى «فيديو» عبر وسائل التواصل الاجتماعى.
المؤسف أن هذا القطاع الحيوى له وزير مسئول من واجبه أن يتابع ويراقب ويحاسب، لكن وزير الصحة والسكان الدكتور «أحمد عماد الدين» غرق فى فوضى تسعير الدواء، وأسقط من حساباته المريض الذى لا يجد ثمن الدواء ولا يقدر على دفع «الكشف الخاص».. وهنا تدخلت هيئة الرقابة الإدارية.
حملة هيئة الرقابة الإدارية مرت على 12 مستشفى فى محافظتى القاهرة والجيزة، و52 مستشفى على مستوى المحافظات بمعدل مستشفيين فى كل محافظة.. وهو نهج جديد فى رقابة الهيئة على الخدمات الحكومية المقدمة إلى المصريين، حيث يقوم ضباط الهيئة بالتفتيش الميدانى على بعض مرافق الدولة ومؤسساتها، فمنذ أيام أجروا تفتيشاً على المخابز، ثم على المجمعات الاستهلاكية.. وهناك تكشفت الحقائق المخزية.
لم يكن تردى أحوال المستشفيات الحكومية مفاجئاً للرأى العام الذى تابع حملة الرقابة الإدارية، لكن اللافت للنظر أن «الطبيب» الذى نأتمنه على أرواحنا أصبح بحاجة إلى «رقيب».. وأن «الرقابة الإدارية» تحولت إلى مارد يهدد زعماء الإهمال الإدارى والفساد فى كل موقع.. والسؤال هنا: ما نتيجة تقرير هيئة الرقابة الإدارية الفاضح لمنظومة الصحة؟.
«لفت نظر».. قال الدكتور «حسام أبوساطى»، وكيل وزارة الصحة بالشرقية، فى تصريحات صحفية، إنه قرر مجازاة مدير مستشفى «منيا القمح» المركزى بـ«لفت نظر»، وخصم 3 أيام من رواتب الأطباء، وذلك بعد تسلمه تقريراً من الرقابة الإدارية حول الزيارة المفاجئة للتفتيش على المستشفى!.
«لفت نظر» هو ثمن حياة إنسان قد تضيع بسبب الإهمال وغياب الأطباء والأدوية منتهية الصلاحية.. قطعاً لا أحد يطالب بتعليق المشانق للأطباء لأنهم مجرد «طرف» فى منظومة فاسدة ومعظمهم لا يعرف شيئاً عن «مناقصات وممارسات» شراء الأجهزة أو الأدوية وطرق ترسيتها على شركات بعينها!.
معظمهم لم ينعم بمخصصات «البك المدير» أو «الباشا الوزير»، وليس أمامه إلا استخدام ماسك «النيوبليز» لأكثر من مريض رغم أنه ينقل العدوى، لعدم وجود أنبوب أكسجين أو غرفة عناية مركزة مجهزة.
لكن المهم أن العقاب أو «الجزاء» حين يقتصر على لفت نظر أو خصم 3 أيام، فهذا معناه بقاء الحال على ما هو عليه.. وبذلك يكون تقرير هيئة الرقابة الإدارية قد أخذ طريقه إلى «المشرحة»!!.