لا يبدو أن وسائل الإعلام المملوكة للدولة فى مصر استطاعت أن تؤدى الوظيفة المنوطة بها، خصوصاً عندما تجرى المقارنة بين تلك الوسائل ومثيلاتها فى دول مثل المملكة المتحدة، وأستراليا، والدنمارك، وألمانيا.
فى دراسة أجراها اتحاد الإذاعات الأوروبية، شملت 25 دولة، ثبت أن البلدان التى تمتلك وسائل إعلام عامة ممولة ومدارة جيداً، أقل ميلاً لتبنى النزعات اليمينية المتطرفة، وأقل قابلية للفساد، وأكثر اهتماماً بحرية الصحافة.
وتضرب الدراسة أمثلة عدة على نماذج خدمة إعلامية عامة ناجحة، مثل هيئة الإذاعة البريطانية (بى بى سى)، وهيئة الإذاعة الأسترالية (إيه بى سى)، وهيئة الإذاعة الدنماركية (دى آر)، وتشير فى هذا الصدد إلى أن تأثير تلك الوسائل واضح فى تعزيز إقبال الناخبين على الإدلاء بأصواتهم فى الانتخابات العامة، وفى دعم المشاركة الديمقراطية فى البلاد.
لقد أثبتت الدراسات أن المواطنين يصبحون أكثر معرفة بخصوص الأحداث الجارية إذا كانوا أكثر تعرضاً لوسائل الإعلام العامة.
ثمة علاقة طردية واضحة بين التعرض لوسائل إعلام مملوكة للدولة وبين القدرة على معرفة المعلومات ذات الأهمية بالنسبة إلى المواطنين، وفق ما أفادت دراسة أجراها مركز بحوث السياسة والاقتصاد فى ديسمبر 2015.
تؤكد الدراسة أن المنحى التجارى الذى يميز الأداء الإعلامى لوسائل الإعلام الخاصة كثيراً ما يحرف الأداء الإخبارى لتلك الوسائل.
بل إن الدراسة المشار إليها تصل إلى ما هو أبعد من ذلك وأوضح أثراً؛ إذ تشير إلى أن الاستطلاعات المقترنة بتحليل المضامين أوضحت ارتباطاً بين التعرض لوسائل الإعلام العامة من جانب، وتوطيد المواطنة من جانب آخر.
لكن القدرة على أداء تلك المهمة الصعبة من جانب الإعلام العام والوفاء بالدور والوظيفة المفترضة يتطلب بعض الجهد كما يستلزم تركيز الإصلاح.
يجب العمل على إعادة هيكلة وسائل الإعلام العامة، وعلى رأسها تلك التابعة لاتحاد الإذاعة والتليفزيون (ماسبيرو) بأسرع وقت ممكن للأسباب التالية:
- إن وسائل الإعلام العامة، و«ماسبيرو» على رأسها، تمتلك تاريخاً، وتراثاً، وتنطوى على كفاءات وطاقات كامنة كبيرة.
- حجم الاستثمار المجتمعى فى إنشاء وتطوير وسائل الإعلام التابعة للدولة كبير، وتصفية تلك الوسائل، أو طرحها للخصخصة أو أنماط تملك أخرى، فى ذلك التوقيت سيمثل إهداراً لها، لأنه سيطرحها للبيع فى وقت تبدو فيه فاقدة للاتجاه والمصداقية وتعانى الهدر والفساد، وبالتالى ستنخفض قيمتها السوقية مقارنة بقيمة أصولها، بما يمثل هدراً للمال العام.
- تواجه مصر مطالب تغيير سياسى واجتماعى، وهى تريد تطوير أنساق سياسية واجتماعية واقتصادية رشيدة تتسق مع المطالب المتعلقة بالانتقال الديمقراطى والقضاء على الفساد والاستبداد واختلاط المال بالحكم، ولذلك فإن تلك الفترة تحتاج إلى امتلاك الدولة منظومة إعلامية يمكنها أن تؤطر أهدافها وتنقلها للمجموع العام.
- ما زالت البنية الإعلامية الخاصة فى العالم المصرى من دون أى تنظيم ذاتى محكم أو نمط من أنماط الدقة العامة المعنية بتقييم الأداء الإعلامى وتقويمه، كما أن بعض عناصر منظومة الإعلام الخاص تفرط أحياناً فى انتهاك القواعد المهنية، وتستخدم كأدوات مباشرة لمصالح سياسية ومالية ضيقة.
- أدى الانكشاف الإعلامى، الذى تعرضت له مصر فى السنوات الست الأخيرة، إلى زيادة تمركز بعض الأقنية الإعلامية الأجنبية الناطقة بالعربية فى الواقع المحلى، وبعض تلك الأقنية يمتلك أجندات خاصة، ربما قد لا تتسق مع المصالح الوطنية. وقد يعجز الإعلام المصرى فى ذلك التوقيت، بسبب أجنداته الخاصة، وارتباطه بمفهوم الربحية، وصعوبة حشد موارد ضخمة من خلاله لإطلاق خدمات إخبارية منافسة، عن توفير المظلة الإعلامية الوطنية التى تلبى أولويات الجمهور.
ثمة استراتيجية مقترحة يمكن من خلالها إعادة هيكلة وسائل الإعلام المملوكة للدولة فى مصر، وعلى رأسها تلك الوسائل التابعة لـ«ماسبيرو»، وهى استراتيجية تنطلق من ضرورة أن تكون تلك الوسائل، بأنماطها المختلفة، تمثل مصدر اعتماد رئيسياً للجمهور المحلى، خصوصاً فى ما يتعلق بعناصر الإخبار والتعليم والتثقيف والتنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتعمل فى إطار من الحرية والشفافية وتكافؤ الفرص والنزاهة والحق فى المنافسة، وفق الأسس والمعايير الدولية، وتنتهج أساليب مهنية ومؤسسية رشيدة، وتصون حرية التعبير وتدافع عنها، وتعكس الأوزان النسبية للقوى والمطالب الاجتماعية والسياسية بقدر كبير من الموضوعية فى أدائها، وتمثل استثماراً ناجحاً للمال العام على صعد الوظيفة الإعلامية والمسئولية الاجتماعية والعمل الوطنى.
ولتحقيق تلك الأهداف، يجب الوفاء بالاستحقاقات الدستورية المعنية، والامتثال للتنظيم القانونى الذى ورد فى قانون تشكيل الهيئات الإعلامية، الذى سُمى «قانون التنظيم المؤسسى للإعلام»، عبر تحويل وسائل الإعلام العامة إلى «هيئات خدمة عامة مستقلة»، وإعادة هيكلتها، وتعزيز كفاءتها المهنية والإدارية والمالية، وتشغيلها فى خدمة المجموع العام، دون التفكير فى تفكيكها أو طرحها للخصخصة أو أى نمط آخر من أنماط الملكية.
لطالما كانت حالة المواصلات فى أى مجتمع من المجتمعات شبيهة بحالة الإعلام فى ذات المجتمع.
فى عدد من الدول المتقدمة تقوم شبكة مواصلات عامة قوية بربط أصقاع البلاد المختلفة، وتوفير خدمات التنقل المأمونة والمعيارية للجمهور.
تتم تلك الخدمات من دون تمييز، وبأسعار موحدة، وهى تعزز الروابط، وتدعم الاندماج، وتؤصل المساواة، وتخدم فكرة المواطنة، لا تنتقى الخدمة العامة المرورية وجهات السير، ولكنها تضمن الوصول إلى كل نقطة فى البلد، ولا تنتقى المستخدمين، لكنها متاحة لكل المواطنين، طالما دفعوا مقابل الخدمة، فى الوقت الذى تكفل فيه تقديم الخدمة لهؤلاء المحتاجين والمعدمين إذا أثبتوا ذلك.
لكن أى مجتمع من تلك المجتمعات لا يمكن أن يكتفى بالمواصلات العامة؛ لأن هناك جماعات من السكان لديها رغبات خاصة فى التنقل، كما أنها تمتلك الموارد الكافية لكى تمول تلك الرغبات.
هنا يأتى دور المواصلات الخاصة، وبعضها مناطقى جداً، وبعضها فاخر وترفى، ومعظمها يحدد وجهة السير ونطاق الخدمة التى يريدها.
لا يمكن لمجتمع رشيد أن يستغنى عن المواصلات العامة والخاصة لكونه يحتاج كليهما.
ولا يمكن لمجتمع رشيد أن يستغنى عن الإعلام العام والإعلام الخاص لكونه يحتاج كليهما.
يجب أن تكون العلاقة بين الإعلامين العام والخاص فى مصر علاقة تكاملية؛ كما يجب أن تخضع إلى أكواد وتنظيم مهنى ومواثيق شرف وأدلة مشتركة.
لكن فى المقابل، فإن الدولة يجب أن توفر السبل اللازمة لازدهار الإعلام الخاص، عبر إزالة القيود عن الصدور، وتوسيع هوامش الحرية، وحماية المنافسة فى آن، كما يجب أيضاً أن تحمى أداء المنظومة الإعلامية العمومية، التى ثبت أنها أكثر وفاء لأدوار الإخبار، وأكثر قدرة على تعزيز المواطنة والديمقراطية والوحدة الوطنية ودعم التنمية.
الأفكار التى يتم تداولها حالياً بخصوص القضاء على «ماسبيرو»، عبر تصفيته أو تركه يلعق جراحه، ليموت كمداً، لا تخدم المصلحة الوطنية، والأفضل امتلاك الإرادة والعزم اللازمين لإعادة هيكلته عبر تنحيفه وترشيقه، وزيادة قدرته التنافسية، من خلال خطة ستكون صعبة ومؤلمة، لكن نتائجها مضمونة وباهرة.