ظنى أن التسريبات التليفونية التى تتسكع هنا وهناك على شاشات القنوات الفضائية لا تقدم جديداً، بل تحيط المستمع والمتابع لها علماً بما هو معلوم بالضرورة، بدءاً من الأحاديث عن مال الخليج، وحتى التنسيق مع إسرائيل فى مسألة شديدة الحساسية مثل مسألة «تيران وصنافير». خطورة هذه التسريبات ليست فى مضمونها، ولكن فيما تثيره من أفكار حول أساليب الحكم فى عصر أصبحت تكنولوجيا المعلومات فيه متاحة على قارعة الطريق، بإمكان كل شخص أن يحصل عليها، ويستغلها حسبما يتراءى له.
أدوات تسجيل المكالمات، وتكنولوجيا رصد كل همسة ولمسة يقوم بها أى شخص -مهما رفع مقامه- أصبحت متاحة فى أيد كثيرة. هى متاحة لدى دول وأجهزة ورجال أعمال وبعض الأفراد العاديين ممن يملكون ثمنها، ولأن كل شىء فى هذا العصر أصبح قابلاً للشراء، فما أسهل أن تبتاع الأصابع التى تدسها هنا وهناك، ولأن نوافذ النشر أصبحت ترتع فى كل اتجاه، ما بين وسائل إعلام تقليدى، ووسائل إعلام جديدة تتبلور حول ظاهرة «التواصل الاجتماعى»، فما أيسر أن تجد من يتطوع أو يجند لعرض هذه التسجيلات. من الأبجديات التى يجب أن تحكم رؤية كل من يدير دولة أو مؤسسة أو عملاً فى هذا العصر أن يستوعب المعادلة التكنولوجية الجديدة التى أصبحت تسيطر عليه. تلك المعادلة التى تفرض على القائمين على صناعة القرار ضرورة الالتزام بالشفافية، وإعلان كل شىء بصراحة، ودون مراوغات أو مواربات، بما فى ذلك تفاصيل القرارات التى قد يجد المسئول أنه من غير المناسب ألا يعرضها أمام الرأى العام، خصوصاً إذا كانت معلومة لدى الرأى العام بالضرورة، حتى لا يتم عرضها عبر أصوات ونوافذ أخرى بصورة محرجة. إذا كانت صناعة القرار قدرة يمتاز بها المسئول، فالإعلان عن تفاصيله شجاعة أدبية ينبغى أن تتوافر فيه، قبل أن يعلنها غيره.
دعنى أضرب مثلاً على ذلك بالرئيس الأمريكى «ترامب»، على ما يمتاز به من شطط، لو أنك نظرت إلى تصريحات هذا الرجل فستجد أنه «يسرب على روحه»، فهو يدلى بآرائه وأفكاره ومشروعاته دون أى تحفظ، وبلا حسابات لردود فعل الشعب الأمريكى أو غيره من شعوب الأرض. تعالَ نستشهد على ذلك بتصريحات تتعلق بأمور تمس المنطقة العربية، بل يتشابه بعضها مع ما ورد فى بعض التسريبات محلية الصنع. «ترامب» أعلن من جديد ومنذ بضعة أيام أنه يدرس بجدية نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، رغم أنه يعلم ردود الفعل العربية الغاضبة، وردود الفعل الإسرائيلية المتحسبة للنتائج، انتقل بعد ذلك إلى مسألة أكثر حرجاً تتعلق بمال الخليج، وستجد «ترامب» أعلن بصورة واضحة قاطعة أنه طامع فى أموال الخليج، ويريد بترول العراق، وأنه يعتبر أن ذلك حق لا ريب فيه، إذا أرادت هذه الدول أن تستظل بالحماية الأمريكية، الرئيس الأمريكى الجديد لا يستحى من أن يؤدى مثل فتوات «نجيب محفوظ»، ولا يتردد فى الإعلان عن حقه فى الحصول على «الفرضة» من جانب الدول التى تريد مساندته. وبغض النظر عن تقييمنا لدرجة وجاهة وموضوعية توجهاته، فإنه يعكس شخصية تؤمن بالشفافية، حتى لو كان من خلال التسريب على روحه!