أسباب عديدة ساقها المحللون لتفسير التراجع فى سعر الدولار أمام الجنيه خلال الساعات القليلة الماضية، لكن يبقى أننا بصدد تحول إيجابى، بعد شهور عشناها والدولار فى حالة صعود، والجنيه فى حالة انكفاء، وهو الأمر الذى أصاب الأسواق بحالة من الالتهاب الذى لم ينجُ من فزعه أحد. كانت صور حائزى الدولار الذين تقاطروا على البنوك وشركات الصرافة لبيع الدولار لافتة للغاية، فمع كل هبوط كان الناس يخشون من هبوط جديد، وهو ما كان يحفزهم على التخلص من المزيد من الدولارات.
يصح أن نقول إننا أمام ظاهرة تأكل نفسها، وكذلك ظواهر الحياة، فهى تبدأ عفية متصاعدة، وتقضى زمناً على هذا النحو ثم تأخذ فى مضغ نفسها، بعد أن تبدأ جرثومة التآكل فى العمل، فتهبط بمنحنى الظاهرة إلى أسفل. وكلنا يعلم أن هناك مواطنين لعبوا دوراً مؤثراً فى رفع أسعار الدولار خلال الفترة الماضية، من خلال حيازته وحبسه فى البيوت، عشماً فى زيادة أسعاره، بل تحول الدولار لديهم إلى وعاء ادخارى مثل العقار، ربما كان لهؤلاء عذرهم فى السعى إلى مواجهة التضخم من خلال هذا السلوك، لكنهم أهملوا حقيقة أن الارتفاع غير المبرر فى أسعار الدولار سيؤدى إلى تضخم أشد يأكل ما يظنون وهماً أنهم يربحونه من مكاسب نتيجة انكفاء الجنيه. فى كل الأحوال هذا درس لا بد أن يستوعبه من أدمنوا حيازة الدولار، وساهموا بسلوكهم الذى توازى مع ركاكة أداء الحكومة فى مفاقمة حجم المعاناة التى واجهها المصريون بعد قرار التعويم.
والنظرة الموضوعية إلى التراجع فى سعر الدولار تقتضى منا استكمال الصورة ومحاولة تأمل الأسباب التى ساقها المحللون الاقتصاديون لتفسير هذا التحول، هذه الأسباب فى مجملها لا تعبر عن جهد حكومى حقيقى أدى إلى زيادة حجم المعروض من الدولار فى السوق بشكل أدى إلى تراجع سعره، فالسياحة المصرية لم تستعد عافيتها كاملة بعد، وما زالت الاستثمارات الأجنبية بعافية. ولا أجدنى بحاجة إلى تذكيرك بأن زيادة الاحتياطى النقدى -مؤخراً- أساسها الديون والسندات الدولارية التى طرحتها الحكومة عالمياً بنسب فائدة خيالية، وكل ما أخشاه فى هذا السياق أن تصح نظرة بعض المحللين إلى ما يحدث وردّه إلى تسييل مبالغ دولارية مما حصلنا عليه عبر القروض والسندات لتصحيح الأوضاع المختلة للجنيه أمام الدولار، بهدف تجميل الصورة أمام بعثة صندوق النقد الدولى التى تزور مصر خلال النصف الثانى من الشهر الحالى، لبحث تسليم مصر المتبقى من الشريحة الأولى لقرض الـ12 مليار دولار. مؤكد أن المسئولين عن هذا البلد يعلمون خطورة مثل هذه الألعاب التى يلجأ إليها الهواة أو الحواة، ويفهمون أن اللجوء إليها له عواقب وخيمة على الاقتصاد. ليس أمامنا سوى أن نتأمل أن يكون التراجع فى سعر الدولار معبراً عن أداء اقتصادى أكثر رشداً، وألا يكون طبقاً لتعليمات (وضع ما شئت من خطوط أسفل كلمة تعليمات!)، وأن يترتب عليه انخفاض مواز فى الأسعار ورحمة هذا الشعب من الضغوط المعيشية التى أصبح أسيراً لها على كافة المستويات.