من أجمل وأروع الكتب التى تتحدث وتحكى عن تجربة الكتابة وأسرار صناعة وحبكة الرواية، كتاب «رسائل إلى روائى شاب» للكاتب ماريو بارغاس يوسا، لمن لا يعرفه هو كاتب عبقرى من بيرو، حاصل على جائزة نوبل 2010، وسأحاول قريباً الكتابة عنه مستقلاً، «يوسا» لا يقدم وصفة جاهزة أو كتالوجاً مخططاً أو دليلاً نموذجياً لكيف تكتب رواية، وإنما هو يقدم عملاً أدبياً موازياً للحظات كشف نورانية عن تجربته فى هذا المطبخ السحرى، مطبخ كتابة الرواية، الكتاب صعب التلخيص لكن هناك مناطق فيه تحمل من روعة البلاغة ودقة التشبيه ما يرفعها إلى مرتبة العمل الإبداعى لا النقدى، من أهم ما تحدث عنه هو الإخلاص للكتابة وهو فعلاً ما نفتقده الآن فى معظم من يمارسون هذا الفن عندنا، لذلك سأركز فى مقالى على هذه النقطة المحورية، يتحدث «يوسا» مطالباً الروائى الشاب الذى يراسله بالتعامل مع الأدب كقدر مصيرى، يجب أن تتحول الكتابة إلى عبودية، ويعطى مثلاً بالسيدات اللاتى كن يعشن فى القرن التاسع عشر وكن مذعورات من بدانة أجسادهن، ولكى يستعدن القوام النحيل كن يبتلعن دودة طفيلية مرعبة، يصفهن «يوسا» بأنهن شهيدات الجمال، فما إن تستقر تلك الدودة فى الجسد حتى تتحد به، تتغذى عليه وتنمو وتشتد على حسابه، ومن الصعب جداً طردها من ذلك الجسد الذى تنمو عليه وتستعمره، كان الجسم ينحل على الرغم من الاضطرار للأكل لكى يهدأ نهم تلك الدودة القابعة فى الأحشاء، كل ما تأكله وتشربه هو ليس لذوقك ولا للذتك، إنما هو من أجل ذوق ولذة تلك الدودة، تلك الدودة هى الكتابة، وكما يقول ماريو يوسا «كل ما فى حياتى الآن لا أعيشه من أجل نفسى وإنما هو من أجل هذا الكائن الذى أحمله فى داخلى والذى لم أعد سوى مجرد عبد له»!!، الميل الأدبى ليس رفاهية ولا يجب أن يكون إضاعة وقت، إنه انكباب حصرى وإقصائى لما عداه، له الأولوية، الكتابة عبودية مختارة تجعل ضحيتها المحظوظة عبداً، إنه لا يكتب ليعيش وإنما يعيش ليكتب!!، يقول «يوسا»: «الروائى يدخل بحماسة من يعتنق ديناً، ولا بد أن يكرس كل طاقته ووقته وجهده لهذا الميل الأدبى»، هناك حيوان خرافى متخيل موجود فى إحدى روايات فلوبير اسمه الكاتوبليباس يلتهم نفسه بنفسه، يوسا فى كتابه يشبه الروائى بهذا الكاتوبليباس، فالروائى مثله يظل ينبش ويلتهم فى تجربته الحياتية الخاصة باحثاً عن دعائم ومرتكزات لابتكاراته القصصية، وفى تشبيه عبقرى آخر يقول «يوسا» عن الكتابة الروائية إنها استربتيز معكوس!!، كتابة الروايات تعادل ما تقوم به المحترفة التى تخلع ملابسها أمام الجمهور حتى تظهر جسدها عارياً، الروائى يمارس نفس العملية ويؤدى نفس الاستربتيز ولكن فى اتجاه معاكس، فهو فى سعيه لإحكام بناء الرواية يستر ذلك العرى الأولى، يخفى بداية الاستعراض تحت ملابس كثيفة ومتعددة من خياله الروائى، يظل يخبى ويخفى عنك هذا العرى الأولى لجسد الرواية حتى تكتشفه فى رحلتك عبر الرواية بعد أن يراوغك الروائى الخبيث الجميل.