مبنى الأهرام.. أوروبا واليابان فى شارع الجلاء
«هيكل» داخل صالة تحرير الأهرام
للوهلة الأولى يجذبك شكل المبنى العريق الكائن بشارع الجلاء فى وسط القاهرة بتصميمه المميز والانسيابى، لا يعكر صفو مدخله الفسيح سوى حالة الضجيج المنبعثة من أعلى وأسفل كوبرى 6 أكتوبر الممتد من مدينة نصر وحتى الدقى والمهندسين، الذى يمر إلى جواره مباشرة، بوابة المبنى القديم أوتوماتيكية، تفتح تلقائياً بمجرد الاقتراب منها، قبل أن يدلف الزائر إلى بوابة تفتيش صغيرة، ومنها إلى موظفى الاستقبال الذين يرتدون زياً موحداً وأنيقاً، وعلى غرار المؤسسات الإعلامية الدولية الكبرى، يُعطى قسم الاستقبال كارت «زائر» للمواطنين من خارج المؤسسة، وقبل الصعود إلى المصاعد الكهربائية الفسيحة والمتعددة لا بد أن يعبر العاملون والزائرون على حد سواء من بوابة كبوابات المترو، تفتح إلكترونياً من خلال كروت ممغنطة، خطوة واحدة تحملك إلى الداخل.. حيث مبنى محمد حسنين هيكل الشهير بجريدة الأهرام.
استغرق العمل فيه ست سنوات وتكلف 5 ملايين دولار
هكذا ينسب الفضل لأصحابه، إذ يعود قرار إنشاء أول مبنى صحفى حديث فى العالم العربى لجريدة الأهرام إلى الكاتب الصحفى الكبير محمد حسنين هيكل، حين فكر فى إنشاء أول مبنى صحفى حديث فى العالم العربى، ليكون أول ناطحة سحاب فى شارع الجلاء ومنطقة الترجمان فى حقبة الستينات من القرن الماضى، واستغرق بناء هذا المبنى 6 سنوات، بداية من عام 1962، وحتى 1968، دون أن يتوقف صدور الجريدة ليوم واحد، واختارت إدارة جريدة الأهرام السيد نعوم شبيب ليكون المهندس المعمارى ومهندس الإنشاءات لبناء مبنى جديد يجاور مبناها القائم فى شارع الجلاء بالقاهرة، ويشغل هذا المبنى الرائع الذى يتكون من ١٢ طابقاً مساحة عدة آلاف من الأمتار، يضم الإدارة العليا والشئون الإدارية والتحرير والمطابع والتوزيع، فى مكان واحد.
المبنى الذى تكلف 5 ملايين دولار، يتكون من أربعة هياكل تتميز كل منها عن الأخرى فى شكلها وموادها وحجمها ونوافذها، وهذه الهياكل المتنوعة منسجمة بعضها مع بعضها الآخر، وتشكل مجموعة معمارية جميلة تجمع على نحو سلس بين المنحنيات والخطوط المستقيمة، كما تتباين القاعة الزجاجية الكبيرة المضيئة الموجودة فى الواجهة الرئيسية مع الحائط الطويل المصنوع من حجر الجرانيت، وصمم الديكور الداخلى للمبنى بحيث يبعث على الإحساس بالراحة والترحيب.
«هيكل» أرسل المهندس سيد ياسين إلى جريدة اساهى اليابانية للاطلاع على أحدث ما توصلوا إليه قبل تصميم مبنى الأهرام على أحدث طراز
يقول الكاتب الصحفى الكبير رجب البنا: «هيكل هو الذى بنى مبنى الأهرام فى شارع الجلاء، وهو أول مبنى حديث لصحيفة فى العالم العربى، وقبل أن يشرع فى البناء اختار للإشراف عليه رجلاً نادراً هو رجل الأعمال المعروف المهندس سيد ياسين، وأرسله إلى اليابان ليشاهد أحدث مبنى صحيفة فى العالم، هو مبنى صحيفة اساهى التى توزع عشرين مليون نسخة يومياً، واستعان بأكفأ المهندسين، وفى النهاية أنشأ هذا المبنى الذى لا يستطيع أحد أن ينتقد فيه شيئاً، ولا يستطيع أحد أن يضيف إليه شيئاً، لأنه كامل، ولأول مرة ينشئ كافتيريا خمسة نجوم فى الدور العاشر يتناول فيها العاملون فى الأهرام الغداء بقروش زهيدة، وكان يقال إن هيكل فعل ذلك لإغراء الجميع على البقاء فى المبنى طول اليوم دون أن يفرض عليهم ذلك، وهذا ما كان يحدث فعلاً».
يضيف البنا: «مبنى الأهرام الذى بناه هيكل كان الأول من نوعه فى مصر والعالم العربى، ليس فقط لأنه كان مكوناً من عشرة أدوار، بل لأنه كان مكيفاً تكييفاً مركزياً بالكامل، وفيه قاعات للمكتبة والأرشيف والاجتماعات، وصالة تحرير تنافس حتى اليوم أحدث صالات التحرير فى أكبر الصحف العالمية، وكان السعاة يرتدون زياً موحداً، ورجال الأمن لهم زى موحد، وتليفونات صالة التحرير بالطابق الرابع كانت بدون أجراس، ولكن تضاء فيها لمبات صغيرة بدلاً من الجرس لتوفير جو الهدوء فى الصالة، ولذلك كنت لا تسمع صوتاً فى الصالة، والحديث يدور فيها همساً، رغم وجود أكثر من مائة صحفى فيها، والجميع يعملون فى الصالة، كل قسم فى ركن مع رئيس القسم، الكبار والصغار، والاتصالات سهلة تستطيع أن تسأل وتستكمل الخبر أو الموضوع فوراً، كان نجيب المستكاوى، رئيس القسم الرياضى، يجلس مع صغار المحررين فيتعلمون منه، وممدوح طه يجلس مع عشرات من محررى قسم الأخبار وقسم مراجعة وصياغة الأخبار المحلية، وهو القسم الذى بدأت عملى فى الأهرام فيه، فيتعلمون من احتكاكهم به طول الوقت، بالإضافة إلى صلاح هلال، رئيس قسم التحقيقات، وباقى زملائه الشبان، وهكذا كان يجلس الجميع معاً، فيشعرون بجو الأسرة، ويعيشون فى جو العمل كأنهم فى ورشة».
يتابع «البنا»: «هيكل هو الذى حوّل الأهرام من صحيفة يملكها أصحابها ويتصرفون فيها تصرف المالك فيما يملك، إلى مؤسسة لها نظم، وقواعد، وتقاليد، ولائحة، وقيادات، ورئيس مجلس الإدارة يضع السياسات ويتابع تنفيذها، ومعه قيادات غاية فى الكفاءة والأمانة والإخلاص، لذلك حملوا عنه الكثير من أعباء الإدارة، لكن الجميع يشهدون أن مقدرة هيكل فى الإدارة لا تقل عن مقدرته فى الصحافة، وهذا هو سر النجاح الذى وصل فيه إلى القمة».
يؤكد «البنا»، مؤلف كتاب هيكل بين الصحافة والسياسة: «صالة التحرير كانت عبارة عن خلية نحل وتصميمها راعى انسيابية العمل بشكل متكامل، حيث كان يتوسط الأقسام التحريرية الديسك المركزى، وهو الذى كان يقوم بمهمة رئيس التحرير فى غيابه، وكان يجاوره قسم التصوير فى حالة الاحتياج إلى أى صورة، وكان المصورون على أتم الاستعداد للنزول فوراً إلى الشارع، وبالقرب من الصالة يوجد مصعد صغير إلى المطبعة لنقل الأوراق للجمع، والتجهيز، وبعد الانتهاء منها كان يتم نقل الأوراق المكتوبة بنفس الطريقة، فى المصعد الصغير، وكان يعقد اجتماعان يومياً: الأول فى تمام التاسعة صباحاً لجميع المحررين والثانى فى تمام الخامسة مساء لأعضاء مجلس التحرير لوضع اللمسات النهائية على الصفحة الأولى واختيار أهم العناوين المناسبة لها، ورغم مرور نحو نصف قرن على افتتاحه فإن مبنى جريدة الأهرام يعد أحدث وأهم مبنى صحفى فى العالم العربى والشرق الأوسط».
وعن زيارة الوفود السياحية لمبنى جريدة الأهرام يقول البنا: «كان الأهرام فى عهد هيكل مزاراً سياحياً ومعلماً مهماً من معالم القاهرة السياحية، وفى اعتقادى أن أهم شىء قام به هيكل بالنسبة لجريدة الأهرام، هو أنه جعل اسمها معروفاً على مستوى العالم، كل المثقفين فى الخارج والسياسيين يعرفون اسمها، وكنا نشعر بذلك ونتابعه بفخر شديد أثناء زياراتنا للخارج، ومقولة إنه جعل الأهرام ضمن أكبر 10 صحف فى العالم صحيحة تماماً».