تذكرت رواية الكاتب الألمانى آريك ماريا ريمارك «كل شىء هادئ فى الميدان الغربى» حين بدأت رحلتى للولايات المتحدة الأمريكية الأسبوع الماضى. زيارة تمتد لبضعة أسابيع وتتسع لعدة ولايات، بدأتها بولاية كاليفورنيا، تلك البقعة الهادئة فى أقصى الغرب الأمريكى.
كثيراً ما تسمع أحدهم يقول «فى أمريكا بيعملوا كذا» أو «عندنا فى أمريكا فيه كذا»، والواقع أنه لا توجد دولة متجانسة اسمها «أمريكا»، لكن هناك خمسين ولاية تمثل خمسين دولة بينها كل ما يمكن تخيله من تباينات واختلافات وفروقات بين الدول.. وولاية كاليفورنيا عبارة عن دولة مترامية الأطراف (أربعمائة ألف كيلومتر مربع، ويسكنها أكثر من أربعين مليون نسمة)، وتحتل وحدها اقتصادياً المركز السادس عالمياً، بعد إنجلترا الخامسة، وقبل فرنسا السابعة.
بدأت رحلتى من مدينة «لوس أنجلوس»، ثم أقمت بمدينة «كورونا»، وهى جزء من مقاطعة «ريفرسايد»، ومنها انطلقت إلى عدد من المدن المحيطة التى لا يختلف طابعها كثيراً عن «كورونا».
هناك غالباً لن تشاهد رأى العين ضابط شرطة أو رجل مرور أو مسئولاً حكومياً، لكنك ستجد الدولة حاضرة طوال الوقت بقوة وردع لن تعرف مصدرهما بسهولة إلا إذا تعمقت قليلاً فى ثقافة المكان. رائحة سيادة الدولة تزكم أنوف الجميع. هؤلاء فهموا وطبقوا الثالوث المقدس لسيادة القانون: (نص قانونى مُحكم، تطبيق للنص، إشراف على التطبيق).. الدولة قوية بحيث أنك ستوصف بالمجنون لمجرد تفكيرك فى إمكانية مخالفة قانون نافذ.
لقطة واحدة قد تلخص عقود التراكم الحضارى عندهم وقرون الاضمحلال الإنسانى عندنا.. بين الطرق فى بلداننا فواصل إسمنتية تسمى «بالدورات» ترتفع لقرابة المتر، وتزن القطعة الواحدة نحو نصف الطن، وتشكل فى مجموعها سوراً عظيماً طويلاً. ومن المفترض أنك لكى تتمكن من الانتقال إلى الجهة الأخرى من الطريق فعليك الانتظار إلى أن تصل إلى مكان قانونى مخصص لفعل ذلك، لكنه من العادى جداً أن تجد عندنا أماكن مهدمة تمثل «يو تيرن» غير شرعى نتج عن قيام أحدهم بإراحة نفسه عبر هدم السور لتمر سيارته مبكراً، وهو سلوك لم يجد دولة تمنعه، والدولة هى أى وسيلة ردع ومراقبة ومتابعة، أى وجود هو دولة، أما الوجود غير الفاعل فهو يمثل شبه الدولة، واللاوجود هو اللادولة.
فى «كورونا» وما حولها، فى الطرق السريعة، أو تلك الموجودة داخل المدن، تفصل بين حارات الطرق المتقابلة خطوط مرسومة على الأرض، مجرد خطوط تمثل أسواراً وهمية لا يجرؤ أحد على تخطيها؛ فإذا وجدت خطين أصفرين متوازيين فلا تفكر فى المشى عليهما، بل لا تفكر فيهما أصلاً واستمر فى طريقك كى لا تجلب على نفسك لعنة سيادة القانون.. خمسمائة دولار غرامة القيام بهذا العمل غير القانونى، والغرامات هناك قصة أخرى.
هناك لم تصل إليهم بعد الفكرة العربية الأصيلة والرائدة فى «كرمشة» الأموال لتسهيل الأمور، كما أن ضابط الشرطة لن يتمكن من ظلمك لأنك ستذهب أنت وهو والغرامة إلى قاعة محكمة لتدافع عن نفسك أمام قاضٍ فى مواجهة الضابط الذى ستكون شهادته فى مقابل روايتك (بالمناسبة: إذا غاب الضابط عن الجلسة فأنت برىء وتسقط عنك الغرامة).. عشرات المواقف الشبيهة فى أيام معدودة.. حزمت حقائبى إلى مدينة نيويورك انتظاراً لمغامرة جديدة.