منذ صدر دستور الإخوان، وتم التصويت عليه فى ليلة مظلمة من تاريخ مصر عام 2012، تم إسدال الستار على وجود المرأة فى مراكز صنع القرار، فدستورهم الظلامى استحدث نصاً يقلص عدد قضاة المحكمة الدستورية من 19 إلى 11 عضواً، وهو النص الذى صُمّم خصيصاً للإطاحة بالمستشارة «تهانى الجبالى» من منصب نائب رئيس المحكمة الدستورية، بسبب موقفها الوطنى ضد حكم الإخوان.
فلم يتبقَ لنا إلا النائبة «عزة الجرف»، نائبة الإخوان، تطالب بعودة المرأة إلى الحرملك وحرمانها من كل مكتسبات نضال الحركة النسوية، ومعها الدكتور «يونس مخيون»، رئيس حزب النور، يطالب بختان الإناث (!!).
وحتى بعد رحيل الإخوان بهلاوسهم السياسية، وإلغاء دستورهم، خرجت علينا الدكتور «سعاد صالح» أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، تفتى بأن: (من حق المحتل أن يغتصب ويستمتع بالنساء «المقهورات» من الشعب المهزوم على يديه)!.. على أساس أننا سنُحقق المعجزة المستحيلة ونهزم إسرائيل فى زحفنا المقدس، أو «الجهاد» المزعوم الذى لم نرَ منه إلا ممارسات «داعش» الإرهابية.
واستمراراً لمناخ وأد المرأة، واختزالها فى الأعضاء التناسلية، واعتبارها مجرد «جارية» فى بلاط الدستور والقانون، أنعم الله علينا بالنائب «إلهامى عجينة» المستفز، ورغبته المسعورة فى تأميم المرأة بـ«الختان»، وهوسه بالكشف على «عذرية البنات» عند دخول الجامعة.. وقدّم أسوأ نموذج للتحرش بالمرأة تحت قبة المجلس!.
فى قلب تلك الغيوم لم تكن السحب حبلى إلا برعد ينذر بحرق الأشجار المثمرة، وبسيول تغرق فيها المرأة ما بين الفقر والتمهيش.. لكنها شقت حصار الظلام بضوء هادئ، وكانت أول إنجاز للمرأة فى عامها، إنها المهندسة «نادية أحمد عبده صالح» التى تولت منصب محافظ البحيرة بحركة المحافظين الأخيرة، لتصبح أول امرأة يفتح لها التاريخ أبوابه فى هذا المنصب، فمنذ أن عرفت مصر النظام المحلى وبداياته مع الاحتلال الفرنسى لم تتبوأ امرأة هذا المنصب الرفيع، الذى يختلف بالطبع عن وزارات كثيرة نجحت المرأة فى إدارتها، وإن اشتهرت فى وزارتى التضامن الاجتماعى والبيئة.
خلف المهندسة «صالح» تاريخ من التحدى والعناد يسبق مؤهلاتها العلمية، فالمناصب العلمية الكثيرة التى تولتها لم تشفع لها عند توليها منصب نائب محافظ البحيرة.. لأنها ببساطة من رموز «الحزب الوطنى» المنحل، وفازت فى انتخابات 2010 عن مقعد كوتة المرأة فى مجلس الشعب ممثلة لـ«الوطنى»!.
أنا شخصياً ضد عودة رموز الحزب الوطنى إلى صدارة المشهد، خصوصاً من ثبت تورطه فى «الفساد السياسى»، الذى لا يعاقب عليه القانون المصرى، لكن الفارق هنا أولاً: أنها تولت منصب نائب المحافظ عام 2013، وأدت اليمين الدستورية أمام الرئيس المؤقت -آنذاك- المستشار «عدلى منصور».. وثانياً: انحيازى للمرأة الذى لا أنكره، فتمكين المرأة هو أهم الإنجازات الحضارية لأى نظام.
وبالتالى يصبح الحكم الموضوعى على «نادية صالح» هو تجربتها، وتقييمها يكون رهناً بأدائها العام فى هذا المنصب، وألا يقتصر وجودها فى المنصب على «الأضواء» وألا يتحول إلى مجرد «ديكور ديمقراطى».
وبحسب المنشور عن المحافظ الجديد، فقد جاءت بما وصفته بـ«أفكار خارج الصندوق»، وقالت: (داخل المحافظة مساحة 700 فدان، سأسعى لإقامة مدينة صناعية على 202 فدان، و200 فدان للمشروعات الخدمية كإقامة جامعات أو مستشفيات، وباقى الـ700 فدان تبقى منطقة سكنية للأجيال الحالية والمقبلة).
إنها تتحدث عن محافظ يُخصص يوماً فى الأسبوع لاستقبال المواطنين وحل مشكلاتهم على الطبيعة، (كلهم صرحوا بذلك، ولم يفعل أحدهم)، وترفع شعار: (لا وقت للبيروقراطية)، وتتعهد بالقضاء على الفساد، ومعاقبة المقصرين، وإتاحة الفرصة للمرأة البحراوية لتقلد مزيد من المناصب القيادية، بالإضافة إلى الاهتمام بملفى «الصحة والتعليم»، وتقديم جميع التسهيلات للمستثمرين الجادين، لتحقيق طفرة تنموية فى محافظة البحيرة.
لو تعاملنا مع تصريحات «السيدة المحافظ» على أنها «تصريحات وردية» لاحتواء غضب القوى السياسية المناهضة لعودة نجوم الحزب الوطنى لهان الأمر، لكن المشكلة الحقيقية أن «نادية صالح» تصعب مهمتها وربما تجعلها مستحيلة، فكلنا نعلم أن الحرب على الفساد لم تنجح حتى الآن إلا فى إطار جهود «هيئة الرقابة الإدارية»، وأن «لوبى الفساد» المتغلغل فى كل محافظة كفيل بإغراق أى مسئول فى مشكلات، وإقصائه «يأساً» من منصبه.. فأحلام وقف نزيف المال العام والقضاء على الفساد ومعاقبة المقصر فى حق مواطن البحيرة كلها تصنع الصدام الأول مع المهندسة «نادية».. وهو غالباً صدام يستخدم أحقر الأدوات فى حروبه!.
و«لوبى الفساد» -أيضاً- قادر على إهدار كل جهود الاستثمار وإجهاض أى خطة تنموية تتعارض مع «مصالحه»، وهى ضيقة وشخصية وقصيرة المدى.
ورغم أننى أؤمن بأن مجموع نجاحات كل محافظ فى موقعه هو ما يصنع «الطفرة التنموية» التى تستحقها مصر، فإننى أرى «محافظ البحيرة» أسرفت فى التفاؤل، رغم أنها تعرف «الواقع» جيداً من واقع عملها نائباً للمحافظ من قبل.
لا أريد إشاعة الإحباط فى قلب أجواء الحفاوة بأول سيدة تتبوأ منصب المحافظ، فما يدفعنى للتفاؤل هنا أنها نجحت فى إدارة مرفق شديد الحساسية بالنسبة للمواطن، وكانت أول سيدة فى العالم العربى تترأس إدارة شركة مياه الشرب والصرف الصحى بالإسكندرية، وظلت بالمنصب لمدة 12 عاماً.
فأهم شىء تفعله المهندسة «نادية صالح» هو «شرف المحاولة».. عليها أن تبادر بفتح كل الملفات التى تحدّثت عنها، وأن تتبنى رؤية جديدة لإصلاح كل ملف، وأن يكون بابها مفتوحاً بالفعل للمواطنين، ولا تضيق بـ«النقد» مهما كان.
عليها أن تدرك أن مستقبل المرأة المصرية فى مراكز صنع القرار مرهون بتجربتها، وأن نجاحها أو إخفاقها منسوب إلى المرأة المصرية.. أما إذا تعاملت مع المنصب باعتباره (بروتوكول وتشريفة) ستكون القضية قد ضاعت إلى الأبد، وكتبت علينا الصفوف الخلفية.. حتى فى الصلاة والجنازات!.