لا تسألنى عن التفاصيل، أدرك أن فيها الكثير، أزمات المجتمع لا تتوقف، أنّات المظلومين، الشكاوى التى تلاحقنا، غلاء الأسعار وتزايد حالات السخط، فساد يتحسس الخطى رغم كل الإجراءات، تحديات من الخارج، ومؤامرات لا تنتهى فى الداخل، حصار اقتصادى، وتشويه إعلامى، انفلات قيمى وأخلاقى.. من منكم يستطيع أن يمسك بالدفة ويقود هذا الوطن نحو الخلاص؟!
منذ أحداث ثورة الخامس والعشرين من يناير تتعرض البلاد لفوضى ممنهجة، لقد أرادوا إسقاط الدولة، وليس تغيير النظام. تحمّل الجيش المسئولية كاملة، قرر إنقاذ البلاد مهما كان الثمن، انحاز إلى الشعب منذ الأول من فبراير وقرر أن يحميه، وأعلن أنه يتفهم مطالبه المشروعة، عاشت مصر سنوات عجافاً، اختلط فيها الحابل بالنابل، كادت الفوضى تعم أرجاء البلد، بعد أن انهارت الشرطة بفعل المؤامرة الإخوانية، ولكن الجيش استطاع أن ينجو بالبلاد، وأن يأخذ على كاهله تبعات الأزمة فى ميدان التحرير وغيره، كانت المشانق تُنصب للمشير طنطاوى، كان شعار «يسقط حكم العسكر» يخرج من الحناجر المسمومة مدوياً، كانت حوائط الشوارع والميادين تكتظ بهذا الشعار وغيره من الشعارات التى كانت تستهدف النيل من معنويات الضباط والجنود. عندما قلت للمشير أكثر من مرة: يجب محو هذه الشعارات ووقف هذه التطاولات، كان يقول: «اترك كل شىء إلى منتهاه، غداً سيعرف الشعب حقيقة دور القوات المسلحة، عليك بالانتظار».. كانت كلماته تعنى الكثير، مضت الأيام وتأكدت الحقائق، القوات المسلحة لم تتآمر، ولم تقتل، ولم تطمع فى السلطة. ولم تعرقل إجراء الانتخابات الرئاسية، ولم تسلم البلد للإخوان، كما كانوا يدعون.. مضى المشير إلى منزله، راضياً مرضياً، كان يعرف أن البلاد تمر بظروف صعبة، وكان يدرك أنها لن تنهار أبداً طالما بقى جيش مصر العظيم صامداً، موحداً، ساعتها لن يستطيع أحد أن ينال من الوطن أو وحدته. سقط الإخوان بفعل الثورة الشعبية العارمة، وجاء الرئيس عبدالفتاح السيسى بإرادة شعبية وانتخابات شهد العالم بنزاهتها، رئيس ينجح بنحو 97٪، يسبقها زحف بشرى ومطالب شعبية عارمة بضرورة الترشح لإنقاذ البلاد مما هى فيه.. كانت مغامرة، تحمَّل تبعاتها، رغم تحذير الكثيرين، قال إن الأوضاع صعبة، ومؤسسات الدولة قد تآكلت، واقتصاديات البلاد باتت منعدمة، العجز والتضخم والفقر والبطالة، قيل له فى هذا الوقت: ليس أمامك من خيار، أنت قادر ونحن معك، قال لهم: هل ستتحملون المسئولية معى بمنطق الشراكة، قالوا: نعم، هل ستصحون فى الخامسة صباحاً وتمضون إلى أعمالكم كما أفعل، قالوا: نعم.. فكر، ثم فكر، ثم فكر، وأمام الضغط الشعبى، قرر السيسى أن يمسك بدفة الحكم فى البلاد، قرر أن يمضى بمركبه المتهالك فى جوف البحر، كان يعرف منذ البداية أن العيون ترقبه، وأن المؤامرة على البلاد كبيرة، وأن عليه أن يواجه، وأن المركب بات فى عرض البحر، وليس أمامه إلا أن يجدف ليصل بسلام. أدرك السيسى منذ البداية أن حالة الوئام لن تطول، وأن لغة التحريض وافتعال الأزمات لن تتوقف، وأن المؤامرة تأخذ أبعاداً أخرى، تنتهز الفرص، وتقلب الحقائق، وتسعى إلى الانهيار، وكان عليه فى المقابل أن يعلن التحدى.. دخل الحرب ولا يملك فيها إلا سلاح الإرادة، فالاحتياطى النقدى منهار، والعجز فى الموازنة يتزايد، والمشاكل تتفاقم، والإعلام الذى عاهده على المشاركة فى المسئولية بدأ البعض فيه يتخلى ويطلق السموم التحريضية. كان الرئيس يتألم، ولكن ماذا يفعل، فقط جملة واحدة أطلقها «حشتكيكوا للشعب»، صمت الرئيس ولم يشكُ، ترك كل شىء يمضى إلى حال سبيله، كان يظن أن الصمت كفيل بالردع، لكنه أدرك الآن أنه أمام حلقة جديدة من حروب الجيل الرابع، والتى يُعد الإعلام واحدة من آلياتها. ومع تزايد حدة الأزمة التراكمية فى البلاد، وتحرير سعر الصرف باعتباره الخيار الوحيد، تزايد الغضب الجماهيرى، تدهورت أحوال الناس، الطبقة المتوسطة أُلحقت بالطبقات الفقيرة، الكل يعانى، الأسعار ارتفعت ارتفاعاً جنونياً، جماعة الإخوان وجدتها فرصة، توحد الأعداء جميعاً فى خندق واحد، نسوا الخلافات الأيديولوجية، توحدوا لمواجهة «السيسى»، دعوا إلى الخروج والتظاهر، حشدوا كل طاقاتهم ليوم 11/11، أدركوا أن خروج الجماهير فى هذا اليوم يعنى الصدام والانهيار، بدأوا يعدون الساعات، ويحشدون كل الإمكانات، ولكن 11/11 مضى دون حتى خروج مظاهرة واحدة. كان السيسى يرقب الوضع بدقة، لقد قرر البدء فى الإجراءات الاقتصادية قبيل 11/11 بقليل، حذروه، وقالوا له إن الناس ستخرج بلا جدال وسترد على هذه القرارات بمظاهرات عارمة، لكن ثقته فى الشعب بلا حدود، قال لهم: أنا أعرف شعب مصر، وأعرف خوفه على بلده، وأدرك أن وعيه لن يعرّضه للخديعة مرة أخرى، فيخرج ليحطم مؤسسات دولته ويحدث الانهيار والخراب على أرض دولته. وفى اليوم المحدد، ثبت للجميع صحة وجهة نظر الرئيس، لقد قررت الجماهير منحه الوقت والفرصة، ليعيد التوازن إلى الساحة مرة أخرى، بعدها حين طلب السيسى ستة أشهر أخرى ليبدأ قطار الإصلاح فى تحقيق بعض نتائجه سقطت الدموع من عينيه وهو يتحدث عن آلام الناس، كان يقول: «ليس أمامنا سوى الصمود، وليس أمامنا سوى النجاح». كتم السيسى فى ذاكرته وعقله أسراراً عديدة لم يأت الوقت ليبوح بها عن مؤامرات حقيقية وسعى دؤوب للتركيع، وفرض التبعية، لكنه كان دوماً يسعى إلى الحفاظ على القرار الوطنى المستقل، وهو يعرف أن لذلك تكلفة حقيقية.
السيسى يراهن على المستقبل، لكنه فى رهانه يبحث عن الآليات الفاعلة التى تساعده على هذا الرهان، يعجز فى كثير من الأحيان عن الوصول إليها، يُحبط فى الكثيرين منهم، يُضطر إلى التبديل والتعديل، فنبدأ من حيث أتينا. إنه يبحث عن النزاهة والشفافية والقدرة والإخلاص، لكنه يفاجأ باعتذارات الكثيرين، وكأن أحداً لا يريد أن يتحمل المسئولية إلى جواره.
المهمة ثقيلة، والتحديات كبيرة، لكن البلاد تمضى نحو الأمام، ولا تعود إلى الخلف، الأمن والاستقرار أصبحا حقيقة واقعة، مؤسسات الدولة تتقدم رغم الحروب التى لا تتوقف، المشروعات القومية الكبرى تطرح واقعاً جديداً، حتماً ستظهر ثماره فى أقرب مما يتصور الكثيرون، القوات المسلحة بتدريبها وأسلحتها الحديثة أصبحت تحتل موقعاً متقدماً بين دول العالم. لقد بدأت روح التفاؤل تعود إلى البسطاء الذين اكتووا بنار الغلاء، الغاز فى الطريق، والسياحة بدأت تهل مرة أخرى، والاستثمار أصبح قاب قوسين أو أدنى، الدولار بدأ فى الانخفاض، والتوقعات تشير إلى أن اقتصاد مصر أصبح واعداً.. مصر بدأت تحقق نجاحاً كبيراً فى تسوية الأزمة الليبية، جمعت الفرقاء على أرضها، وتولى رئيس الأركان الفريق محمود حجازى قيادة المصالحة التى بدأت تتحقق على الأرض، واستطاعت مصر، رغم كل المؤامرات والحظر العسكرى المفروض على تسليح الجيش الليبى، أن تدعم الشرعية، وأن تحقق التقدم المنشود، وأن تدحض المؤامرة. مصر أصبحت لاعباً أساسياً فى الملفات الساخنة عربياً وأفريقياً، وأصبح تأثيرها الدولى يتفاعل، وعلاقاتها مع الشرق والغرب تؤتى ثمارها، وهى كلها نجاحات ليست بالهينة. وعندما قال جلالة الملك سلمان بن عبدالعزيز فى افتتاح مهرجان الجنادرية الشهر الماضى إن مصر تعود من جديد، كان يعنى أن دور مصر الذى تراجع كثيراً فى فترات سابقة بدأ يعود من جديد، وهو أمر لا غنى عنه للمنطقة أو العالم.
أدرك أن الكثيرين لهم ملاحظات عديدة، وهى ملاحظات مشروعة، لأنها تنطلق من أناس وطنيين شرفاء، ولأن أحداً لا يكابر، ولا ينفى، ولكن عندما توضع هذه الملاحظات فى إطار الأزمة وتداعياتها، ساعتها ستعرف الفارق جيداً. إن الأيام المقبلة لن تكون أسوأ مما مضى، بل ستكون نحو الأفضل بكل تأكيد، سنتغلب على الأزمات الاقتصادية رويداً رويداً، وليس أمامنا من خيار غير ذلك، وستعود مصر لتحتل دورها المحورى الفاعل فى المنطقة وخارجها، ستعود مؤسسات الدولة أقوى مما كانت وأكثر فاعلية، وسيرسخ السلام الاجتماعى أقدامه على الأرض، وستبقى منظومة القيم الأخلاقية هى الحاكم للعلاقات الاجتماعية بين أبناء الشعب جميعاً. ليس أمامنا سوى التفاؤل، لأن الخيار الآخر حتماً يؤدى إلى الانهيار.. وطالما بقى هذا الوطن صامداً محافظاً على كيانه وعلى جيشه وشرطته ومؤسساته فحتماً سيتحقق الانتصار، هكذا علمتنا التجارب. لقد انهارت ألمانيا ولكنها عادت من جديد، انهارت اليابان، لكنها بُعثت إلى الحياة مرة أخرى، فما بالك بمصر أرض الحضارة والخلود!!