لا أشك لحظة واحدة أن من بين مثقفينا من يعرف الروائية الفرنسية «فرانسوا ساجان» التى وُصفت «بالوحش الجميل الآسر»، أكثر ممن يعرفون العالم الرائع «كارل ساجان»، الذى قدم لغير المتخصصين مجموعة كبيرة من المعارف العلمية بأسلوب لا يقل جمالاً عن الأعمال الأدبية، التى يأتى على قمتها قصة «الكون» cosmos. ولأن التكامل الثقافى -كما نتصوره- يتجاوز الفصل التعسفى بين مجالات الإبداع البشرى، بل ويتطلب الإحاطة الكافية -ولا أقول الكاملة أو المتعمقة بها- فكرت فى أن أجمع بين الأدب والموسيقى والعلم فى تقديمى لأحدث تقنيات «التدخل الوراثى» فى الكائنات الحية كلها، بما فى ذلك الإنسان، هذا الكائن الفريد، الذى مكنه «التقدم العلمى والتكنولوجى» ألا يكتفى بالهندسة الوراثية للكائنات التى تهمه فقط، حيث يخطط لهندسة نوعه البشرى أيضاً، وعندما يتعلق الأمر بالإنسان بالذات يكون من حق الكثيرين التوقف أمام مفهوم «التقدم» المذكور والمطالبة «بالحكمة» فى ممارسة إمكانيات تطبيقية، دون حجر على حرية البحث والمعرفة من ناحية، أو استسلام لضغوط «البزنس» وأهدافه الربحية البحتة، هذا التوازن يجب أن ينعكس فى السياسات العلمية والتكنولوجية، والتنظيم المجتمعى لها، التى يرى البعض -مثل فرانسيس فوكوياما- أنها يجب أن تتم على المستوى العالمى، بالنسبة لهذه التقنيات الخطيرة (الخطيرة هنا تعنى الأهمية والخطورة فى آن واحد).
عودة إلى فرانسوا وبالذات روايتها «هل تحبين برامز؟» هذا الموسيقى الشهير، وانعكاس ذلك على وضع تقنية «كريسبر»، لنتساءل عن إمكانية حبها، وتوضح العلاقة بينه وبينها.
برامز مؤلف «النوتة» الخاصة بسيمفونياته، والتغير بين حركاتها، ويميز المتخصصون بين الفرق التى تعزفها. أما تقنية كريسبر فنستطيع التدخل بتعديل وتغيير النوتة الخاصة بالسيمفونية الوراثية (الشفرة) الخاصة بالكائنات الحية، بما فى ذلك الإنسان. هذه النوتة «تعزف» فى البيئات الداخلية والخارجية المختلفة، بما فى ذلك البيئة التربوية والاجتماعية بالنسبة للبشر.
تعتمد تقنية كريسبر على توظيف نظام جزئى تستخدمه البكتريا فى حماية نفسها من الفيروسات التى تصيبها وتدمرها، وذلك بالاستيلاء على مقاطع من هذه الفيروسات واستخدامها لمقاومة هذه الأعداء عند مهاجمتهم لها. هذه المقاطع تسمى كريسبر crispr، وهى اختصار لمصطلح معقد، قد لا يستدعى الأمر تفصيله فى هذا المقال. ما يهمنا هنا، ونرجو أن نوضحه للقارئ، أن العلماء وجدوا فى هذا النظام الحمائى الموجود فى الطبيعة (اعرف عدوك) فرصة فى تطوير نماذج يمكنها التعرف على الجينات المختلفة، بما فى ذلك التى تسبب الأمراض والصفات غير المرغوبة، وتعطيل عملها، هذا بالإضافة إلى إمكانية الحذف والإضافة فى برنامجنا الوراثى، الذى شبهناه بالنوتة الموسيقية، كإحدى الوسائل الحديثة، الأكثر دقة وبساطة، بالمقارنة بتقنيات الهندسة الوراثية الأخرى.
وقد نجح العلماء فى استخدام هذه التقنية فى طيف واسع من التقنيات، مع الوعد بالمزيد، أجروا تجاربهم على النباتات والحيوانات والأجنة البشرية غير القابلة للاستمرار فى الحياة وتمت الموافقة على إجراء البحوث على الأجنة البشرية فى إنجلترا وأمريكا، ومع الاتجاه إلى تشجيع البحث العلمى بالنسبة لهذه التقنية الواعدة بالنسبة لتحسين صفات النباتات والحيوانات الاقتصادية ومعالجة الأمراض الوراثية الخطيرة، هنالك تحفظ مفهوم على استخدامها بالنسبة للخلايا الجنسية نظراً لاحتمال إحداثها بعض الآثار السلبية غير المتوقعة، التى قد لا يمكن إيقافها أو التخلص منها. هذا يندرج تحت أهمية الرشادة فى التطبيق التكنولوجى للتقنيات الحديثة قبل استيعاب كل آثارها المحتملة، حتى لا تنبهر بأنها تعد مثلاً بإنتاج أطفال مصممة حسب الطلب أو باستعادة الحيوانات المنقرضة كالماموث إلى الحياة، ونفاجأ بأنها تسببت فى الإضرار بالبشر، والآن يمكننا أن نسأل: هل تحبون كريسبر؟ أنا شخصياً أحبها وأرجو الحرص فى تطبيقها، لأن آخر ما نحتاجه العداء للعلم.