سيكون نوعاً من التغافل أن نتعامل مع تصريح الوزير الإسرائيلى «أيوب قرا» المتعلق بتوطين الفلسطينيين فى سيناء باعتباره تغريدة عابرة على حسابه الشخصى، ولا يجوز بالمطلق الوقوع فى الفخ المكشوف الذى نُصب فى طيات التصريح وهو ينسب هذا المقترح كخطة للرئيس السيسى، فوضع هذه الفرية على هيئة فخ لا يكون بالخروج لنفيها، وإلا قبل أن ننتهى من الرد والسخرية منها سنكتشف أننا قد سقطنا فيها. فالأصل هو استهداف صناعة أكبر صدى ممكن لهذا الطرح الإسرائيلى، فليس هناك ضمانة لمساحة ترويج هائلة بأنجح من نسبها للرئيس المصرى، وهو ما استهلك بالفعل الغالبية العظمى من رد الفعل، لاسيما أن التعقيب الإسرائيلى الرسمى عليها لم يتكلف سوى مجموعة تصريحات نافية أقرب إلى الفعل المجانى. لكن إطلاقها قبيل الزيارة الأولى لنتنياهو إلى البيت الأبيض وملاقاة ترامب فى حديث يختص بمستقبل المنطقة، يحولها على الفور إلى فعل سياسى محسوب بدقة ومعلوم الغرض منه، وآلية الإطلاق لإثارة الغبار ثم التنصل والنفى من المتعارف عليه فى مثل تلك الأداءات السياسية.
إذن، أين يقف سؤال القلق المصرى الواجب.. كيف يمكن صياغته.. ولأى مساحة تمدد قد نتوقع وصوله إليها؟
فى البداية، إن مشروع «غزة الكبرى» هو مما عملت عليه المراكز البحثية الإسرائيلية وقدمته للسياسيين كى يجربوا حظوظهم فى إنفاذه، الأجهزة المصرية على إدراك كامل بكل تفاصيله منذ لحظة انطلاقه الأولى، وساهمت مع نظام مبارك فى رفضه ووأد جميع تنويعاته وتخريجاته، ونأت عن بعض صفقاته السرية، التى كان ضمنها ضخ مالى يقارب 70 مليار دولار، وفى همس آخر ضمان تمرير وقبول أمريكى بمشروع التوريث. بالنظر إلى هذا الجهد الإسرائيلى ووصوله فيه إلى محطة العام 2010م، فضلاً عن اعتبار وجود حماس بقطاع غزة ودفع الإخوان للقيادة فى العام 2012م، وهم ممن رحبوا بهذا المشروع، إذن فالتخطيط الإسرائيلى لهذا المشروع لم يهدأ حتى هذا التاريخ القريب. وفى هذا نحن أمام خمس سنوات منذ هذا التاريخ وصولاً لتصريح الوزير الإسرائيلى، جرت فيها مياه كثيرة مختلطة بالدم والقلق، البعض منها على أرض سيناء والكثير منها فى الإقليم.
الإدارة الأمريكية الجديدة التى ذهب نتنياهو للقائها بعد ساعات من إطلاق التصريح المذكور، استبقت زيارته بحزمة من الهدايا المجانية، أخطرها التنصل -ولو شكلياً- من الإبقاء على حل الدولتين كمرجعية لحل القضية الفلسطينية، والحرص على تمرير عبارات مخففة فيما يتعلق بالاستيطان الإسرائيلى لأراضى الضفة، بوصفها كفعل معرقل وليس لب الأزمة، فيما كان المجتمع الدولى منذ أسابيع يدين الاستيطان ويجرمه قانوناً ويضعه كفعل غير معترف به وبآثاره. لكن المنطقة العميقة لتلك الإدارة الجديدة فى الواقع لديها ما هو أخطر، فقد طرحت رؤيتها فى قضايا أخرى مثل أمن الخليج والأزمة السورية بمبدأ «لماذا لا يدفع الآخرون؟»، ولم تكن تقصد أموالاً فقط بل تحمل نصيباً من ثمن سياسى يستوجب الوفاء به حتى وإن جاء غير مقبول، وهذا امتد حتى وصل للحلفاء الأوروبيين وحلف «الناتو»، حيث أصاب الشركاء المقربين بقلق وانزعاج لم يغادرهم حتى اللحظة. هذه الإدارة التى لم تقدم رؤية منضبطة أو خلاقة لأى من قضايا الإقليم، واتهمت إدارة أوباما بأنها تسببت فى وصولها إلى هذا التدهور السريرى، يبدو وكأنها تدفع باتجاه خلل إكلينيكى قد يصعب السيطرة على تداعياته، مثلما صرحت فيما يخص المناطق الآمنة بسوريا وعن تحمل دول المنطقة كلفة إنشائها والإنفاق عليها. طرح به من الاستخفاف بالتعقيدات المذهبية وكثافة التسليح ما قد يطيح بالدولة السورية تجاه التقسيم السريع، كضمانة الإسراع «فقط» بخروج المريض من غرفة العمليات حتى لو كان الثمن فقد أطرافه.
على هامش تلك الظلال الكئيبة، ترى إلى أى مدى امتدت معادلة القلق المصرى بشأن سيناء، فاختصاراً طرح الوزير الإسرائيلى مساراً يتعلق بسيناء كى تتبناه الإدارة الأمريكية، أو فى أقل تقدير لوضعه على مائدتها وسط خيارات أخرى، على شرف وجبة التهام الأرض واللحم الفلسطينى. وقد نكون نحن حينها إزاء طرح «ترامبى» مماثل، إن كانت تلك قضيتكم التى تريدون حلها فلماذا لا تتحملون جزءاً من الثمن، الطرح هنا لن يأتى فى صيغة سؤال إجابته بـ«نعم» أو «لا» مصرية، بل ربما سيرتدى أقنعة أكثر تعقيداً مما نظن. سُكون إرهاب سيناء ذات المساحة من الأرض المشار إليها يعد بالضرورة أحد تلك الأقنعة، واستمرارية إطلاق النيران تحت توكيل اسم «داعش» طوال ثلاث سنوات، هى بالمناسبة عمر ثورة يونيو التى اندلعت وفى القلب منها ما كان يجرى فى سيناء، والذى شهد مؤخراً «تحوراً» لافتاً، فى اجتماع «ديوان آل أيوب» بالعريش لمجموعة من العائلات استهدفت تنظيم «عصيان مدنى» بزعم قتل الشرطة لأبنائهم، الذين لم يكونوا إرهابيين من وجهة نظرهم. ربما فشل العصيان جزئياً لكنه كشف قناعاً آخر قد يكون جاهزاً للإشهار فى ظل احتقان يغذيه عناصر من الإخوان والسلفيين، الذين ربما لم يرفعوا سلاحاً لكنهم فقط ضامنون لبقاء المشهد المتوتر، بالقدرة على تعويم النشاط الإرهابى المسلح رغم ما يتلقاه من ضربات أمنية.
الحذر المطلوب يستوجب اعتبار الصمت الإسرائيلى على الوجود العسكرى المصرى المكثف داخل المنطقة (ج)، هو أحد الأقنعة الخطيرة الجاهزة للتبديل بآخر، ربما فى توقيت لا نكون قد وصلنا فيه لإجابة شافية عن مستقبل سيناء. ففى ظل إدارة أمريكية تتناول القضايا الكبيرة بمنطق «الصفقات»، يقابلها فعل استيطانى إسرائيلى محموم، قد يضع أراضى سيناء الشاسعة والفارغة، مع مساحات مشروعة من القلق المصرى، موضع اختبار أكثر تعقيداً مما مضى.