«هنالك أيام فارقة فى حياة الشعوب.. أيام تصنع التاريخ.. ترى هل نمر ببعض منها أم تراها لحظات احتضار أخرى لشعب يموت؟»..
هذه كانت أول كلمات مقالى فى يناير 2011.. ومرت السنون فى لعبة تبادل المقاعد والاتهامات بين أصدقاء الأمس وأعدائه.. وبلا تردد من إعادة النظر ومراجعة النفس ومقاومة السقوط فى مستنقع الكبر (والمقاوحة) أو على النقيض الانزلاق مع تدافع القطيع، ما زلت أحاول أن أكون شجاعة لدرجة التوقف عن الحسابات التافهة لاعتبارات البشر، بل الانحياز للحقيقة المجردة من المصلحة أو الهوى.. أتذكر أحلاماً ترجمتها يومها إلى كلمات ملأت بها الدنيا صياحاً فى خضم الحدث تقودها جياد الحماسة وعربتها، لأقف عند كل منعطف جديد يطل علينا منه أحد أوجه الحقيقة، قبيح غالباً، متجمل فى بعضها، برىء أحياناً، من زاوية رؤية تتسع بمساحات انقشاع الغيوم، ليبقى ذات السؤال: «هى ثورة ولّا مؤامرة؟».. فهل لك يا صديقى أن تبحر معى عبر طيات كلمات، كان وما زال التاريخ وصاحبة الجلالة شهوداً عليها حين نشرت فى حينها، وظلت مشروع كتاب عصى على الظهور للنور بحثاً عن تلك الغائبة الحاضرة.. إنها الحقيقة.
حكايتى مع بلطجى بولاق
فى فجر أحد ليالى الترقب قبل رحيل رأس النظام.. كنت عائدة من ميدان التحرير متخذة طريقى لكوبرى 15 مايو وكانت بداية ما سموه «اللجان الشعبية».. مجموعة شباب واقفون يتدفأون بقليل من النار والأحاديث والأحلام التى لا تنتهى.. أخبرونى بكلمة السر وهى دليل على إتمام تفتيش السيارة.. لم أستطع منع نفسى من الضحك فقد كانت (باى باى حسنى).. نبهونى إلى أن شارع 26 يوليو مغلق بالمدرعات وليس عندى اختيار سوى الدخول فى حوارى وأزقة منطقة بولاق أبوالعلا العريقة -أو البحيرة الجميلة «beau lac» كالترجمة الفرنسية.. وبشهامة اقترحوا أن يقودنى أحدهم بدراجته للطريق ولكننى أشفقت عليه من البرد وأدعيت أنى أعرف المنطقة جيداً اعتماداً على حدس تحديد الاتجاهات الذى جعل أصدقائى يلقبوننى بـ«الحمامة الزاجلة» من قدرة لا أدرى كيف اكتسبتها عندما أركز لتحديد الاتجاهات كانت تتجلى أكثر فى المعسكرات والبلاد التى أذهب إليها للمرة الأولى..
وهكذا بدأت أخترق حوارى شديدة الضيق بالكاد تسمح بمرور السيارة وتجعل فكرة الرجوع مستحيلة.. ظللت أتوغل حتى بدأت أشعر أننى فى عالم آخر لا يمكن تصور وجوده فى قلب العاصمة الأكثر ازدحاماً.. بيوت قديمة نصف متهدمة ظلالها أطلال وأبوابها العتيقة حزينة تغلبها الوحشة بعد أن هجرها سكانها منذ أزمنة بعيدة.. وقد اختفت تلك اللمسات الشعبية من واجهات البيوت الخالية شرفاتها الأثرية من الغسيل وكراكيب الحياة.. بدأت رياح الشتاء وضبابها بالتآمر مع ضوء سيارتى الذى أصبح خافتاً جداً لأرى أشباحاً خرافية تتحرك فى الهواء.. فقدت تركيزى مثل المسحورة وقد اختفى صوت المدينة وأضواؤها تماماً.
وفجأة بعد منعطف ضيق ظهر من اللامكان رجل ضخم ووقف أمام سيارتى تماماً.. سرت قشعريرة فى جسدى وقد منحته فوانيس سيارتى المزيد من الضخامة والتجهم.. لوّح لى بعصا غليظة فى يده وهو يلف حول سيارتى يبحث عن شىء ما.
لأكتشف أننى فى زقاق سد، وبدأت ألوم نفسى على تكبرى عن حمل الصاعق الكهربائى.. وقررت التعامل مع الموقف.
نظرت فى عينيه أبحث أنا أيضاً عن شىء ما.. استجمعت شجاعتى وقررت أن خير وسيلة للدفاع هى الهجوم..
- السلام عليكم.
- عليكى (قالها على مضض).
- ممكن تساعدنى أوصل للكوبرى؟
ظل يتأملنى لدقيقة شعرت أنها دهر.. وهو يطيل النظر إلى حقيبة يدى..
- إنتى إيه اللى جايبك هنا.. مش خايفة تمشى لوحدك بالليل؟
- مصر هى اللى جابتنى.. وأخاف من إيه وأنا وسط بلدى وولاد بلدى الجدعان.. لو قلت الحقونى هلاقيهم انشقت الأرض وطلعوا منها زيك كده دلوقتى!!
وظللت محدقة فى عينيه برباطة جأش لا أعرف من أين جاءت وكأن شيئاً داخلى يصدق ما أقول.
ليدور حول سيارتى مرة أخرى فى صمت.. ثم يقول:
- «طب خليكى ورايا»..
لا أعرف لماذا استسلمت، ربما لم يكن عندى رفاهية الاختيار وظل يقودنى ويوجهنى ويزيل ما يعيق مرور سيارتى حتى وصلت فعلاً لبداية الطريق.. ليقترب قائلاً:
- «خليكى على طول واقفلى القزاز وسوجرى الباب.. ربنا يستر طريقك».
شعرت تجاهه بعطف ورغبة فى الاعتذار وهو يودعنى وقد رأيت فى عينيه ذلك الذى ناشدته وكنت أعرف أنه موجود.. وقد أطلق سراحه.. وكانت كلمة السر هى «مصر».